الرواية المطوَّلة وفتنة الحشو والترهُّل

ثقافة 2022/02/05
...

  كمال عبد الرحمن
الرواية: مجموع متخيل ومتجانس من الأحداث والشخصيات، فهي تختلف عن أحداث الواقع المتناثرة، لكن عالمها الخيالي يوازي العالم الحقيقي، ويحاذيه، ويوهم بمشابهته في بعض الأحيان، وثمة سؤال يطرح دائما (لماذا الرواية الطويلة والمطوّلة؟)، هل هو عجز من الكاتب أم عدم قدرته على ضبط خيوط الحبكة والسيطرة على أطراف الصراع؟.
 
إذا رضينا بالرأي الذي يقول إن أفضل نص روائي هو (الخيميائي) لكويليو، فهذا يعطينا مؤشرات، على عدم ضرورة الإطالة والاستطالة في كتابة الرواية، فـ (الخميائي) في (70 صفحة) تقريباً، قدمت ما لم تقدمه روايات بمئات الصفحات، وهذا لا ينفي أهمية أن تكون بعض الروايات طويلة وطويلة جداً، مثل (البؤساء) و(البحث عن الزمن 
الضائع) و (الحرب والسلام: التي تتألف شخصيات الرواية فيها من أكثر من 500 شخصية)، فهذه روايات أحداثها عظيمة متشعّبة وبعضها يعتمد على صراع 
الأجيال.
لكن الرواية أحياناً لدى بعض كتابها، إما أن تنحو نحو الشاطئ، فتصطدم بصخور اليابسة، أو تجنح إلى الأعماق فتغرق في لجج الأمواج المتلاطمة، ومؤكد أن هذا يدل على عدم سيطرة الكاتب على مجريات الأمور السردية في الرواية، لذلك هنا في الغالب تصعب السيطرة على صفحات الرواية، ولا يعرف الروائي ماذا يفعل، ونضرب أمثلة صعبة ومعقدة عانى منها كتاب الرواية، فهناك اختلافات في المجتمعات السردية الواقعية أو المتخيلة، ففيها اختلاف الأقوال والأفعال والشخصيات، من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، فمجتمع روايات دوستوفيسكي غير مجتمع روايات تولستوي، ومجتمع روايات كافكا غير مجتمع روايات نجيب محفوظ، والعلاقات الرابطة بين شخصيات رواية «يوليسيس» تختلف عن العلاقات الرابطة بين الشخصيات في مجتمع رواية «البحث عن الزمن المفقود»، فالمجتمع السردي في كل رواية، صغيرا كان أم كبيراً، يختلف في هذه الرواية عن تلك للكاتب نفسه، وتتباين المجتمعات السردية بين رواية وأخرى بحسب عدد الشخصيات، فـ (الحرب والسلام: خمسمئة شخصية)، وهو يختلف عن نظيره في رواية (الزمن المفقود: من ألفي شخصية)، وتختلف أحداث روايات السلالات مثل (ملحمة الحرافيش) لنجيب محفوظ، و(آل بودنبورك) لتوماس مان، و(جودت بيك وأبناؤه) لأورهان باموك، فهل معنى ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة، أي بمعنى أحداث متشعبة تحتاج الى رواية طويلة، واحداث قليلة تحتاج الى صفحات قليلة، هل تقاس الأمور هكذا، مؤكد أن الأمر ليس بهذه البساطة، فهناك روايات فيها تفاصيل وتداخلات كثيرة، لكن حجمها من الحجم الوسط، فصنعة الرواية تقترن بتجشم المشقة بالتأليف، وما يرادفها من تصنع وتكلف، الأمر الذي يوحي بكتابة تعارض البديهة، وتخالف الطبع، فلا يصار الى الاهتمام بجودة الصنعة، واتقانها، وإحكامها، والحذق فيها، بل التظاهر بها، وتكبدها من دون خبرة.
يقع الكاتب في معميات وغوايات وفتن سردية عديدة، ما لم يكن محترفا في صناعة الحبكة وبتر النهايات السائبة للكتابة أو غلقها في الوقت المناسب، يكون السارد مأخوذا بالدهشة والفتنة، وهو يقف مذهولا بين الوعي واللاوعي، واللاوعي هو الذي يمنح النص انسيابية عمياء، تسمح بالترهل والحشو والاستطالة التي عكس الإطالة، فإطالة صفحات النص بشكل مناسب مع معطيات السرد، هي حالة صحية، أما الاستطالة فهي نوع من الحشو والمرض الذي يصيب السرد والشعر على حد سواء، فوقوع الكاتب الناشئ في حبائل الاستطالة والنسيان، هو إحجام عن استكشاف الحقيقة السردية للعمل، وتقاعس عن الابتكار، وهو ضرب من الاهمال، وسيؤدي الى تخريب تجربة الكتابة، بتقديم روايات غاية في الطول بلا مبرر، وهذا الطول سيهدر مركزية الرواية، ويضعف شخصياتها، ويخرجها من قائمة الروايات الجيدة.
إن الرواية القصيرة المكثفة تركب أحداثها في صوغ مقتضب، فتسبب الدهشة عند القارئ، وتبعث اليقظة والتحمس في أفكاره، كمن أتته فاكهة ناضجة ليس عليه سوى التهامها بسهولة وعيا وقراءة، لا عسر ولا تعقيد ولا حشو، ومن لذة النص الروائي هنا أن تنتهي الرواية من دون أن يشعر المتلقي بانتهائها، فكل شيء فيها مناسب، فكأنها تنتهي قبل أن يرغب القارئ بذلك.
أما الرواية الطويلة أو المطولة، فيغرق استرسالها القارئ في تفاصيل الأحوال التاريخية والاجتماعية، وقد يبالغ في ذلك، بما قد يسبب للقارئ الإرهاق إن لم يكن متمرسا في القراءة، وتسهب في الوقوف على أحداث فرعية، وتطنب في ايراد 
حكايات ثانوية تعترض مسار السرد، وتعيق نمو الأحداث، وكما أشار «هارولد بلوم» فلا يبحث القارئ في الصنف الطويل عن 
حبكة: بل يهدف في قراءته لها الى كيفية كشف تطور الشخصيات، ورؤية المؤلف للعالم.
لا شك أن الظاهرة السردية منفتحة على تجارب الكتابة في العالم، ولها القدرة على ابتكار تقنيات جديدة تمكنها من التعبير عن موضوعاتها بأفضل الطرق، وحيثما التفت الناقد وهو يحلل السرد يجد طرائق مبتكرة، فما تستقر نظم السرد على حال إلا وتنحسر أمام أخرى، يدفع بها السرد كالأمواج الهادرة، وهنا قد يفقد السارد توازن السيطرة على النص، فتستطيل الصفحات كما يحلو لها، من دون أن يلفت ذلك انتباه الكاتب الذي مازال مشدودا بقوة السرد، ومع أن فضاءات السرد العربي الحديث تنفتح على اتجاهات لم تكن معروفة من قبل على نطاق واسع، مثل التخيل التاريخي، والسرد النسوي، والسيرة الروائية، وموضوع الهوية، وموضوع الأقليات، وتمثيل التجربة الاستعمارية، وهي قضايا شديدة الاهمية، إلا أن معظم الروائيين العرب لم ينتبهوا الى قوة السرد الجبارة، ولم يأبهوا بصنعته، فكتب أغلبهم أعمالا مترهلة، ومفككة غلب عليها الانشاء السطحي، والوصف الساكن، والحبكات الرتيبة، والشخصيات النمطية، والعواطف السيالة، والنهايات المفتعلة، ويعود ذلك الى عدم الاهتمام بالوظيفة التمثيلية للسرد، ومجافاة أعراف صنعته، لذلك يضع الكاتب نفسه بين كفي كماشة (المادة) و(المعالجة)، ومن هنا ينبغي عليه أن يحذر من هذه المحنة السردية التي تجابهه بأية لحظة، وما تَسَرُّبُ الصفحات من بين يدي الكاتب بلا وازع مثل ذرات الرمال، إلا هي البداية في صناعة تخريب بوعيه أو لا وعيه ستضرب الرواية، فتخرج الصفحات من مقاسات الأحداث والشخصيات، ويترهل الكلام ويفسد البناء السردي المحكم وتتهشم الرواية.