السكيتش الأدبي جنساً سرديَّاً

ثقافة 2022/02/06
...

 د. ثائر العذاري
 
على الرغم مما يطرحه بعض النقاد من مآخذ على نظرية الأجناس الأدبية، فإن أحدا لم يستطع إلى الآن تقديم نظام اصطلاحي بديل، فحتى أشد المعارضين للنظرية لا يستطيع الحديث عن أي نص من دون استعمال جهازها الاصطلاحي، وكانت المفارقة المضحكة مقال كتبه (جاك دريدا) يهاجم فكرة التجنيس بينما مقاله مليء بمصطلحاتها. ولا أشك أن عملية التجنيس فيها من العيوب ما لا ينكر، ولعل أبسطها إعطاء انطباع غير حقيقي بوجود جنس أدبي نقي، لكنها مع ذلك أفضل أداة بين أيدينا حاليا للكشف عن تطورات النصوص الأدبية وضوابطها والتمييز بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي.
قبل أيام جمعتني أعمال المشغل السردي في البصرة بالقاص الكبير محمد خضير وتحدثنا في قضايا فنية كثيرة، كان منها طلبي أن أحاوره في قضية شغلتني مؤخرا، هي ما يعرف بالإنجليزية (السكيتش الأدبي Literary sketch ) بوصفها ظاهرة لا يمكن الحديث عنها إلا إذا جنست، وقلت له إن هذا النوع من الكتابة موجود عند القاصّين العرب منذ مدة طويلة لكن النقد لم يهتم به ولم يتناوله بالدرس لا نظرياً ولا تحليلاً، فوافقني الرأي لكنه فاجأني بأنه كان قد كتب فعلا مقالة على صفحته الشخصية في فيسبوك عن الموضوع نفسه تقريبا في الوقت نفسه الذي تنبهت للموضوع، وكانت سعادتي كبيرة بهذه المصادفة.
بدأت ظاهرة السكيتش الأدبي في أوروبا وفي بريطانيا تحديدا في القرن السابع عشر، مع اتساع تطلع الطبقة الوسطى لمعرفة البلاد الأخرى وثقافاتها، فكانت بداية السكيتش الأدبي شبيهة بأدب الرحلات، لكنها نصوص قصيرة تصف مكانا أو ظاهرة أو عادة شعبية. لكن السكيتش الأدبي ازدهر وأصبحت له أصول وضوابط أوائل القرن التاسع عشر، إذ يرجع مؤرخو الأدب الأوربيون ذلك إلى ضعف الإقبال على قراءة الرواية في هذه المدة، ولعل من أبرز كتاب سكيتشات أدبية في تلك المدة هو كتاب القاص الأميركي (واشنطن إيرفنج) الذي عنونه (دفتر سكيتشات جيفري كرايون) الصادر عام 1820، وكانت هذه المرة الأولى التي يستعمل فيها إيرفنج اسمه المستعار هذا، ثم توالت الكتب التي أخذت عنوان (دفتر سكيتشات…).
السكيتش الأدبي نص سردي عماده الوصف، يقوم على عنصر سردي واحد؛ الشخصية أو المكان أو الأشياء، ويهمل العناصر الأخرى. وفي الموسوعة البريطانية مقال موسع مهم عن نشأته وسماته، ومما جاء فيه:
«السكيتش الأدبي سرد نثري قصير، يكتب غالباً من أجل التسلية، قد يخص ثقافة قوم لاطلاع قوم آخرين عليها، وهو أقل درامية وأكثر وصفا من القصة القصيرة، ويكتب غالبا بلغة أليفة مخادعة…».
ويمكننا تحديد أربعة أنواع من السكيتشات الأدبية:
1 - في النصف الأول من القرن الماضي كتب بعض الأدباء نصوصا شبيهة بالعمود الصحفي أطلقوا عليها اسم (صورة قلمية)، ولعل أشهر ما كتب من هذا النوع ما كان ينشره ثروت أباظة في مجلة الإذاعة والتلفزيون المصرية ثم نشرها فيما بعد في كتاب عنونه (عاشق الليل- صور قلمية).
2 - وظهر في الصحافة العربية في القرن الماضي أعمدة بعنوان (بورتريه) وهي مقالات قصيرة تصف شخصيات حقيقية من رجال السياسة والثقافة، ومثال هذا ما كان يكتبه (خيري شلبي) ثم جمعها بعد ذلك في كتاب عنوانه (صحبة العشاق) كان يتناول في كل مقال شخصية شهيرة فيبدأ بوصف دقيق لمظهرها ثم ينتقل إلى وصف الطباع والمواقف الكاشفة عنها ومن تلك الشخصيات (سيد درويش) و(أم كلثوم).
3 - أما النوع الثالث فله علاقة بأصل كلمة سكيتش في الفنون التشكيلية فهو مخطط أولي للوحة أو تمثال ينوي الفنان عمله، والسكيتش الأدبي يمكن أيضا أن يكون مخططا أوليا لرواية أو فكرة قصة قصيرة، وهذا ما كانت تفعله (فيرجينيا وولف)، وقد طبع عدد من سكيتشاتها خاصة تلك التي كانت تضع تصورات عن روايتها (السيدة دالاوي).
 وكتبت عن السكيتشات دراسات أكاديمية ونقدية.
4 - وأما النوع الأخير، وهو ما يعنينا هنا، فهو نص سردي شاع في القرن الحادي والعشرين، وقد يكون من إفرازات عالم الليبرالية الجديدة ولا معقولات ما بعد الحداثة، إذ راح الكثير من كتاب القصة يكتبون نصوصا تركز على عنصر سردي واحد وتردم غياب العناصر الأخرى بالوصف، ولعل من أبرز ما كتب من هذا النوع في العراق مجموعة (بصرياثا) للقاص (محمد خضير)، و(قصص الخميس) للقاص (فرج ياسين) الذي يبدو أنه قرر الاستمرار في كتابة هذا النوع السردي وتطويره كما يبدو مما ينشره على صفحته في فيسبوك منذ مدة.