مساحات من البشر بانتظار الكتاب

ثقافة 2022/02/06
...

  ياسين طه حافظ
وأنا أقرأ الكتاب الخصيب «مائدة كورونا» للأستاذ علي حسين (دار أثر للنشر والتوزيع، الدمام، المملكة العربية السعودية، 2021)، وجدتني أمام مسؤولية الكتابة عن ظاهرة لم نعرها اهتماماً، هي المدى الأوسع لحضور المعلومة ولحركة عموم الثقافة. نحن نكتب لفئة من دون فئات واسعة أخرى، وأننا في الأكثر نكتب لمحترفي الكتابة وقرائهم ضمن بضعة آلاف من عموم القراء. وهنا نترك مساحة شاسعة مزدحمة بالهموم والمشكلات ومحرومة من الكتاب، ومحرومة لسببين، الأول أن مستوى ثقافتهم يحرمهم من الفهم، الثاني أنهم ليسوا دائما يملكون أثمان الكتب الباهظة.
 
وتساءلت كم عدد نفوس العراق؟ آخر ما أعلن أنه واحد وأربعون مليون إنسان، حسنا، كم عدد المثقفين وكم عدد من يشترون الكتاب؟ لنكن كراماً أو مسرفين، ولنقل مليونا إنسان وعدد من يشترون الكتاب منهم لا يزيد، مهما اظهرنا من كرم على النصف مليون، واظن باعة الكتب يصيحون بوجهي كم مبذر في الأرقام أنت!.
إذاً، ثمة مساحة بشرية تريد أن تقرأ وتريد أن ترى العالم وما فيه، ولكنها تريد ما تستطيع أن تفهمه وأن تستوعبه. وأن يأتي لهم مجاهدون بررة بخلاصات ما في الثقافة الجديدة من فلسفات ومن معلومات ومن الافكار الأساسية لمجريات السياسة، التي يسمعون أخبارها، فيفهمون ما يقال.
في هذه المساحة البشرية ما يقارب العشرة ملايين يكتبون ويقرؤون، وهؤلاء هم البشر الأكثر استهلاكاً، وهم الذين نعيش على خداعهم وأصواتهم وعلى تصفيقهم وعلى استغلالهم أيضاً! هؤلاء يريدون كتاباً يعينهم وينفعهم، ويمكنهم من فهم المقولات، والأفكار والفلسفات، وما داموا مهمين لنا، ولا أقول ما داموا أبناء شعبنا وقوامه الأكثر حياة، لماذا لا نكتب لهم؟، ونكتب لهم ما يستطيعون قراءته وما يتمكنون من فهمه؟، وهل تظل الثقافة والأفكار والمعاني والمعلومة التي تنفع في العيش والعمل وتمنحهم شيئاً من متعة أو سعادة، هل تظل بعيدة عنهم ويظلون محرومين منها؟.
وإذا توسعنا في الرؤية وتحدثنا عن أبناء أمتنا وناسنا في البلدان العربية، كم يصبح عدد الملايين المهملة أو المحرومة من الثقافة الحديثة وأفكارها ومن جملة المعارف الجديدة 
التي ننشغل بها ونتمتع بها ونتاجر بها ايضاً؟.
ثمة ملايين بين النخب والعوام، وهؤلاء ايضاً يمكن أن يكونوا سوقاً كبيرة لنوع من الكتب مفيدة.
انتبه المرحوم حلمي مراد لذلك وأصدر «كتابي» وهو كتاب صفته الكاملة «كتاب للجميع» وكانت كتب هذه السلسلة كتباً رائجة ونافعة للجميع حقاً، وأقول للجميع وأعني حتى النخبة. فضلاً عن الوسط الثقافي العام، مدرسين وطلبة وقراء آخرين من عموم الشعب.
لقد قدم أمهات الأعمال الادبية بتلخيص لطيف كما قدم اعمالاً كاملة بطبعات شعبية صغيرة الحجم رخيصة الثمن.
ما يعنيني هو تقديم الكتب في شتى المعارف بانتزاع خلاصتها، بايجازها، بذكاء ووعي، حتى لنقرأ عدة كتب في كتاب ونتعرف على عقول مفكرة أو مبدعة بمطبوع بسيط واحد.
بذلك المشروع البسيط والمهم، أشاع أفكاراً وعرّف بآداب من لغات شتى واطلع الناس على فلسفات، وحتى الكتّاب وممارسو الكتابة الابداعية كانوا يقتنون الكتاب ويفيدون منه. فقد اطلعوا من خلاله على «أجواء» و «موضوعات للكتابة جديدة، وانتبهوا لاهتمامات غير تلك المحدودة التي ينشغلون بها. 
بمثل ذلك العمل الخير والنافع والذكي، يقدم لنا الأستاذ علي حسين مؤلفاته، بنسق أرقى ولفئة هي أقرب للنخبة وأقرب لعموم المثقفين. 
كما يفيد ويرتاح لها أهل الدرس والأدب، هي كتب لعموم القراء «تلمّ» بالكثير المهم وتوفر وقتاً.
إنه يجيء بالأفكار والفلسفات من مظانها ليقدمها مختارة موجزة في كتاب، ولأن وراءها ما اشترطناه، لمثل هذه الاصدارات من وعي ثقافي وادراك جيد، فقد صارت كتباً للمتخصص وللمثقف العام وللقراء من ناس الشعب الذين لا يعرفهم احد ولا تهتم به مؤسسة ولا هم ضمن أي حساب.
آخر كتب هذا الكادح الثقافي هو «مائدة كورونا- مفكرون وادباء في مواجة الجائحة...» صحيح أن للكاتب عمله التقني الخاص وأسلوبه و طريقته في الانتقاء والتقديم، لكنه شبيه كريم في النفع العام بما نفعنا به يوماً المرحوم حلمي مراد، فالقراء، من كل مستوى يجدون في هذا الكتاب، وفي أمثاله امتاعاً وثقافة، فالفلسفة هنا والتحليل من هذا المفكر أو ذاك وكل وجهة نظر، نجدها معروضة بذكاء في بضع صفحات مصفاة. فما أن تنتهي من صفحات الكتاب التي قاربت المئتين، إلا وأنت راضٍ، مطلع وقد نلت متعة مما كان.
في التعالي عن الشعب خسارة لا للشعب حسب؛ ولكن للمتعالين عليه أيضاً. تثقيف الشعب يعني العمل على زيادة عدد القراء وهذه الزيادة بدورها تعني مزيدا من المبيع، ومن زيادة المبيع تأتي جدوى دور النشر وجدوى المؤلفين والكتاب وبهذا عم النفع وعمت الثقافة، ويبقى للمتخصص خطه وشرطه العلمي، ويبقى للأكاديمية مجدها، فما قلناه إضافة لصالحها أيضاً.