وعاء الأدب

ثقافة 2022/02/06
...

 علي نسر    
 
ليس الانتماء حكرًا على عصر ومكان محدّدين، إنّما هو يواكب حركة الإنسان الذي وجد نفسه في هذا الكون دفعة واحدة، وراح يبحث عن ماهيّته وعمّا يحدد هويّته الحياتيّة. ومن الطبيعي أن تكون الأفكار مرافقة لحركته الوجودية، يتبنّى ما يريد وما يناسب تطلعاته، ويرمي ما يراه تضليلا وخطرًا. وبهذا تكون الأيديولوجيا رفيقة درب الإنسان منذ القدم، وإن لم تظهر كعلم أو كمفهوم قبل القرن الثامن عشر، نظرًا إلى عدم الحاجة إلى وجودها، كما يقول الباحث عبدالله العروي الذي يرى أنّه قبل القرن الثامن عشر كانت هناك ملاحظات تؤلّف نظرياتٍ شبيهة بنظريات الأدلوجة، ولم يكن لها حضور لعدم الحاجة إليها. فلطالما كان الفكر والواقع منسجمين وكأنّ ما بينهما مرآة لا تغيير في حقائقها، ومن يخالف حركة الواقع تسقط عليه التهم من قبيل مسّ الشيطان أو بتحريكه عبر قدرات غيبيّة وما شابه ذلك... وهذا ما حصل مع تعاملِ أفلاطون مع الشعراء الذين اتهمهم بالتزوير وبأنّ شيئًا باطنيًّا وراء حركتهم، ولم يرفعهم إلى مستوى الفلاسفة وأصحاب القوانين من الطبقات العليا في جمهوريته الفاضلة حتى جاء تلميذه فحررهم حين أشار إلى أنّ الشعراء لا يأتون بما هو كائن إنما بما يجب أن يكون.. وبهذا فإنّ مفهوم الأيديولوجيا، أو الأدلوجة حسب العروي، مرتبط عضويًّا بمفهومي التاريخ والمجتمع، ولا ينتعش أو يتبلور إلا في نطاق نظريّة اجتماعيّة ونظرية تاريخيّة متكاملتين. وبهذا تتكرّس فكرة دور الصراع الحياتي القائم منذ الوجود الأوّل، وفعاليته في تحريك عجلة الحياة كما يرى الماركسيون، إذ لا زمان ولا مكان، قديمًا وحديثًا ومستقبلا، خاليان من الصراع، حيث إنّ المجتمع الوحيد الخالي من الصراع هو الذي صوّرته الأديان السماوية في الجنّة، خارج الحياة كما يرى الباحث عصام محفوظ. وما عدا ذلك فإنّ الصراع هو ضريبة الحياة وشرطها، ومن دونه نصبح خارجها. قد يضعف أو يستكين أو يقمع، لكنّه سرعان ما ينتفض ليؤكّد أن الإنسان لا يزال في الحياة، وأنّ الحياة مستمرّة والتاريخ مستمرّ، أقلّه في المفهوم الذي لنا حتّى الآن عن الإنسان والحياة والتاريخ. وإذا كانت نظرية المحاكاة قد شهدت روح الأيديولوجيا نقدًا أدبيًّا وتحليلا اجتماعيًّا، فإنّ الصراعات الفكرية التي شهدتها الفرق الكلاميّة الإسلامية تعدّ حاضنّا لافتًا لحركة الأيديولوجيا. وهذا يعود إلى ما قبل القرن الثامن عشر الذي يلمح العروي إلى حصر الايديولوجيا فيه وإن كان قد أشار إلى ما أظهرته الحروب الكلامية بين الفرق من هذا القبيل، وهذا ما نلاحظه اليوم من حروب ما زالت نتائج الصراعات القديمة وما أفرزته من أفكار تديرها رغم انتفاء أصحابها وعوامل ظهورها.
ويعدّ الأدب، الوعاء الأكبر، والمرجل الأمهر في عمليّة استيعاب حركة الحياة وما تقدّمه من موضوعات، وقد أثبت أن الحركة الأيديولوجية كانت موجودة وبقوة بين الفرق الكلامية، وقد انقسم الناس حيالها حكّامًا وجمهورًا، وانعكس ذلك في الأدب كنتيجة لأية حركة اجتماعية وفكرية وسياسية، فعكستها النتاجات الأدبيّة وحافظت على ابقائها ذات دور فكريّ ثقافيّ تحلو فيه الحوارات والصراعات.. وما قدّمه أبو نواس والمعري والمتنبي قديمًا خير مثال.