شارع في برلين

ثقافة 2022/02/09
...

ستار كاووش

 

تتمتع أعمال الفنان أرنست كيرخنر (1880 - 1938) بالقوة والسطوة والجمال، هذا الفنان الذي بَسَطَ تأثيره واضحاً في عالم الرسم ومَثَّلَ التعبيرية الألمانية في أجمل صورها وأشدها تأثيراً على الإطلاق، وقد رسم أجواء مدينة دريسدن في بداية القرن العشرين، ثم انتقل إلى برلين ليرسم ناسها وأجواءها المزدحمة (كما في هذه اللوحة) التي عكست الحياة اليومية والشوارع المليئة بالمارة وهم يتخاطفون هنا وهناك، رسمهم بخطوط منحرفة ومتداخلة، وألوان كانت جديدة على العين وغريبة على الذائقة، ألوان صريحة وصارخة وخشنة، وهي انعكاس لأزمات تلك السنوات البعيدة وأجوائها المضطربة التي كانت تمضي قدماً نحو بداية الحرب العالمية الأولى. 
درسَ كيرخنر في بداية شبابه العمارة في درسدن، ثم درس الرسم في ميونخ ليعود سنة 1905 إلى درسدن ويؤسس جماعة الجسر صحبة الرسامين كارل شميدت وأريك هيكل، وقد كان أول اجتماع لهم في مرسمه (الذي كان قبل ذلك محلاً للجزارة)، وهذه الجماعة جاءت لتعبرَ بالفن من مرحلة إلى أخرى، من أجل إيجاد صيغة مختلفة وشكل جديد للفن، يتناسب مع الحركات الطليعية التي ظهرت في العالم، وقد حاربهم النازيون واعتبروا أعمالهم منحطة ولهذا منعوا معارضهم في ما
بعد.
وجماعة الجسر كانت هي أساس المدرسة التعبيرية في الرسم، التي انتقلت من ألمانيا لتشمل بلدانا عديدة من العالم، وكانت مزامنة بالضبط للمدرسة الوحشية التي ظهرت في مدينة باريس.
ويعتبر النقاد والمؤرخون كيرخنر واحداً من أهم فناني عصره، ويضعونه في نفس مكانة براك وماتيس من حيث التجديد ونوعية الأعمال ونسبة التأثير. 
من خلال أعماله نرى كيف تأثر كيرخنر بالفن البدائي الذي اطلع عليه في متحف الأعراق البشرية، كذلك استفاد كثيراً من تقنيات أدوارد مونخ الذي مرَّ حينها بألمانيا أثناء عودته إلى النرويج قادماً من باريس، كذلك نلاحظ توظيفه لبعض تقنيات سيزان، واستثمر كل ذلك في بناء أشكاله واستعمال فرشاته بِحُرِّيَة.  
بعد انتهاء الحرب تدهورت حالته النفسية كثيراً، فنزل في مصحة، قبل أن يقرر السفر إلى مدينة دافوس في سويسرا، حيث جبال الألب، عسى أن تكون هناك جنته التي تنقذه من الضغوطات النفسية والخوف الذي سببته له النازية (كأنه يعيد حكاية غوغان الذي ذهب إلى جنته في تاهيتي).
وقد انسجمَ كيرخنر مع الطبيعة هناك، وتفرغ لرسم الجبال والأشجار وما يحيط بيته، بألوان تعبيرية حادة 
وصريحة. 
وقد قضى هذا الرسام أكثر من 20 سنة منعزلاً في سويسرا، خائفاً من ظلال النازية التي ظلَّتْ تلاحق خياله باستمرار.
وقد تفاقمت حالته النفسية بعد أن احتلت ألمانيا النمسا، وأصابه الذعر من أن يحتل النازيون سويسرا أيضاً، فأطلق النار على نفسه أمام منزله، ورحل بعد ثلاثة أيام، ليرقد في المقبرة المجاورة، تاركاً أعمالاً عبقرية تتسابق المتاحف للحصول عليها واقتنائها.