دوستويفسكي.. عبقرية في مواجهة الموت

ثقافة 2022/02/10
...

 إعداد: الصباح 
بينما كان دوستويفسكي في الثامنة والعشرين من عمره صدر حكمٌ بإعدامه، فقد كان عضواً في جماعة «التفكير المتحرر» التي اعتبرها القيصر الروسي جماعة خطيرة. وبينما كان الجنود يخرجون أعضاء الجماعة من السجن لتنفيذ حكم الإعدام جاءهم القرار بتخفيف الحكم من الإعدام إلى النفي في سيبيريا، وهكذا كتب لهذا الشاب 32 سنة أخرى ليعيشها سيقضيها في الكتابة ليصبح أحد أشهر الكتاب العالميين الذين تجاوزت شهرتهم روسيا بسرعة.
وكانت شهرته الرئيسة هي كتابة الروايات التي تعبّر عن فهم عميق للنفس البشرية، وخاصة نفسية الأشخاص الذين يفقدون عقولهم، ويتحولون إلى مجانين أو ليرتكبوا جرائم قتل معقّدة التفاصيل، وهكذا فقد استطاع فيودور دوستويفسكي نقل ما يحدث في المجتمع الروسي إلى سياق عالمي أبعد، بغوصه في تعقيدات وتركيبات النفس البشريّة.
ولد فيودور دوستويفسكي الذي يصادف اليوم ذكراه في مدينة موسكو الروسية في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1821، لأبٍ يعمل طبيباً في مستشفى عسكري وأسرة شديدة التديّن، وكان والده يُعرف بتديّنه الشديد طوال حياته. كما كانت قسوته على أطفاله استثنائية، وستظلّ مع دوستويفسكي شخصية أبيه طوال حياته، وستظهر كذلك في كتابته، لكنّ والدته المؤمنة الطيبة قد فارقت الدنيا في سنّ صغيرة، وهكذا عاش فيودور حياة بائسة تماماً، منذ صغره.
 
بدأ في القراءة بنهم في شبابه، وكان يتلقَّى تعليمه في البداية على يد والدته ووالده ومعلّمين خصوصين، لكنَّه التحق بمدرسةٍ خاصة عندما أصبح في سن 13. وبعد عامين فقط توفيت والدته، وقُتل والده بعدها بسنتين أيضاً، عام 1839، حين كان دوستويفسكي في الثامنة عشرة من عمره، وملتحقاً بمدرسة في العاصمة الروسية حينها سانت بطرسبرغ.
درس دوستويفسكي الهندسة -على عكس رغبته- ليصبح مهندساً عسكرياً، لكنّه كره المدرسة وأحب الأدب. وبعد انتهائه من دراسته في الهندسة، حصل على وظيفة “مهندس ملازم”، لكنّه كان مشتتاً بسبب حبه للأدب، وهكذا ابتعد عن مهنته التي درسها وتدرب عليها وتفرّغ تماماً للكتابة. وقد نُشرت أول ترجمة له في صيف عام 1843، وهي ترجمة لرواية “أوجيني غرانديت” للأديب الفرنسي بلزاك.
ورغم أنه نشر عدة ترجمات في هذا الوقت، فإن أياً منها لم يكن ناجحاً بشكل خاص، ووجد نفسه يعاني مالياً. وتُظهر خطاباته الأولى أنه كان شاباً متحمساً يفيض بالحيوية، بل إنه ربّما كان يعاني اضطرابا عقلياً خفيفاً أيضاً.
بعدما ترك دوستويفسكي الهندسة امتهن الكتابة، فبدأ حياته المهنية بكتابة قصصٍ خيالية عن فقراء يعانون ظروفاً معيشية صعبة.
انتهى من روايته الأولى “المساكين” عام 1843، وكان عمره آنذاك 23 عاماً. وهي رواية اجتماعية عن موظف حكومي متعثر مالياً. عندما خرجت الرواية أشاد بها ناقد روسيّ معروف، فاشتهرت، غير أن رواية دوستويفسكي الثانية “الشبيه” التي نشرها عام 1846 لم تلق ترحيباً مماثلاً، ولم تحظ أعماله اللاحقة في أربعينات القرن التاسع عشر بترحاب كبير.
لكنّ رواية “الشبيه” عُرفت بأنها أفضل أعماله الأولى، وكانت من نواحٍ كثيرة سابقة لعصرها، لكنّ النجاح المحدود لها أزعج دوستويفسكي كما هو متوقّع. واتّسمت حياته في الفترة بين عامي 1846 و1849 بالضياع والارتباك. وكانت معظم القصص القصيرة والروايات التي كتبها خلال هذه الفترة تروي تجارب بأشكالٍ وموضوعات مختلفة.
وشهدت حياة دوستويفسكي بعضاً من هذه التجارب المضطربة نفسها، ففي عام 1847 انضمّ إلى ما يشبه منظمة ثورية (مناهضة للحكومة) تسمى رابطة بتراشيفسكي “جماعة التفكير المتحرر”. وفي عام 1849 أُلقي القبض على أعضائها.
وبعد قضاء دوستويفسكي ثمانية أشهر في السجن “حُكِمَ” عليه بالإعدام، لكنَّ هذا الحُكمَ خُفِّفَ إلى السجن أربع سنوات وأربع سنوات من الخدمة العسكرية القسرية في سيبيريا، لكن دوستويفسكي شعر في مرحلة معينة أنه لم يعد لديه سوى لحظاتٍ قليلة ليعيشها، ولم ينس أبداً ما شعر به في تلك التجربة. 
يحكي دوستويفسكي لزوجته عن تجربة حكم الإعدام تلك ووصول الحكم بالتخفيف إلى النفي، فيقول: 
كنت واقفاً في الساحة أراقب بفزعٍ ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد 5 دقائق. كلنا في قمصان الموت موزَّعين بين مجموعاتٍ من ثلاثة محكومين، وكنت الثامن في التِّعداد، ضمن المجموعة الثالثة. أوثقوا الثلاثة إلى الأعمدة، وبعد دقيقتين يطلق الرصاص على المجموعتين الأوليين ويأتي دوري. يا إلهي، ما أشد رغبتي في الحياة. تذكرت كل ماضيّ الذي هدرته وأسأت استخدامه، فرغبت في الحياة من جديد وفي تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمراً طويلاً وفي اللحظة الأخيرة أعلن وقف التنفيذ.
وهكذا، كانت تجربة مواجهة الموت/ الإعدام تجربة محورية في حياة دوستويفسكي، وكذلك في أدبه.
عاد دوستويفسكي إلى العاصمة سانت بطرسبرغ عام 1859 مع زوجته المضطربة، ماريا إسايفا، وهي زوجته الأولى التي تزوجها في المنفى في سيبيريا، لكن زواجهما لم يكن سعيداً.
كانت ماريا متزوجة في الأساس من ألكسندر إيفانوفيتش، لكنّ دوستويفسكي كان قد وقع في حبّها منذ لقائهما الأوّل، وما إن ذهب زوجها ألكسندر إلى مهمّة عسكرية حتّى قتل فيها، وهكذا انتقلت ماريا مع ابنها للعيش معه، في ترتيب قدري عجيب.
وبعدما كتب خطاب اعتذار للسلطات الروسية عن “جريمته”، استعاد دوستويفسكي حقّه في النشر وفي الزواج، وهكذا تزوّج ماريا، لكن سرعان ما ظهرت اختلافات الشخصيات بينهما، وهكذا أصبح زواجهما تعيساً.
عمل في تحرير مجلة تايم مع شقيقه ميخائيل وكتب عدداً من الأعمال الروائية لكسب المال. وفي عام 1861، نشر كتاب “مذكرات من البيت الميت” أو كما يترجم أحياناً “ذكريات من منزل الأموات”، وهو عمل روائي مستمدٌ من تجربته في السجن. 
بشكل عام، لم يظهر في كتابات دوستويفسكي خلال هذه الفترة أيَّ تقدم فنِّي يُذكر مقارنة بأعماله الأولى، ولم يظهر فيها لمحة من الإبداع الذي ظهر لاحقاً، عام 1864 في روايته “رسائل من تحت الأرض”.
اتسمت حياته خلال هذه الفترة بتدهور الصحة والفقر والتجارب العاطفية المعقدة. إذ وقع في حبّ الطالبة الشابة بولينا سوسلوفا، واستمرت علاقته المُحبطة بها لعدّة سنوات. وسافر إلى خارج البلاد بين عاميّ 1862 و1863 فراراً من دائنيه، وللعلاج ولعب القمار.
في روايته “رسائل من تحت الأرض”، وهي إحدى رواياته القصيرة، يحاول دوستويفسكي تبرير اعتبار الحرية الفردية جزءاً ضرورياً من الطبيعة البشرية. 
توفيت زوجته الأولى عام 1864، وتزوج في العام التالي من آنا غريغوريفنا سنيتكينا التي كانت امرأة عملية ومتزنة على عكس زوجته الأولى، وعلى العكس أيضاً من
عشيقته. 
وما من شكٍّ في أنّ الفضل يعود إليها إلى حد كبير في توفير الظروف التي ساعدته على العمل بتولِيها مسؤولية العديد من المهام العملية التي كان يكرهها ولم يتمكن من أدائها يوماً كما ينبغي.كانت آنا قد ساعدته عندما عملت معه سكرتيرة أثناء كتابته رواية “المقامر”، وفي العام التالي تزوّجا. كانت تصغره بـ 25 عاماً. وقد اضطرّت لبيع ممتلكاتها الشخصية الثمينة للتغطية على ديون زوجها.
وقد كتبت آنا ذكرياتها ونشرت بعد وفاتها بسبع سنوات عام 1925، أي بعد وفاة دوستويفسكي نفسه بـ 28 عاماً!
في عام 1866، نشر دوستويفسكي روايته “الجريمة والعقاب”، وكتب رواية “الأبله” بين عامي 1867 و1869، ورواية “الشياطين” عام 1870، وقد أرسل الجزء الأخير من رواية “الإخوة كارامازوف” إلى ناشره في تشرين الثاني 1880، وتوفي بعد ذلك بفترةٍ وجيزة، في كانون الثاني 1881 عانى من نزيفين رئويّين متتابعين. 
وبعد فترة وجيزة عانى من نزيف ثالث ليغادر العالم يوم 28 يناير/ كانون الثاني. وفي وقت وفاته كان قد وصل إلى أوج مجده في روسيا، وحزن الكثيرون من الروس على موته، ولكنّ العدد الدقيق للمشيعين في جنازته غير مؤكّد، إذ أفادت مصادر مختلفة أن الأرقام تراوحت بين 40 و100 ألف مشيِّع. ونُقش على قبره اقتباسٌ من إنجيل يوحنا: الحق أقول لكم، ما لم تسقط حبَّة قمحٍ في الأرض وتموت فإنها تبقى وحدها، ولكن إذا ماتت فإنها تؤتي ثماراً كثيرة.