احتدام السجال الإصلاحي - الأصولي بشأن القضايا الكبرى

قضايا عربية ودولية 2022/02/10
...

 جواد علي كسار
 
إذا استثنينا لحظة مهدي بازرگان رئيس أول حكومة مؤقتة، ولحظة أبو الحسن بني صدر الرئيس الأول الذي أطيح به وبسلفه تحت ذريعة الليبرالية وغياب الإسلامية النقية؛ إذا استثنينا ذلك فإن جميع حكومات الجمهورية الإسلامية في إيران، عاشت استقطاباً حاداً بين ثنائية متعارضة ورؤيتين متضاربتين في إدارة البلد، بصرف النظر عن التسميات. 
في عهدِ وزارة مير حسين الموسوي برز الاستقطاب الثنائي عمودياً، داخل صفوف مؤسسة رجال الدين التي فرضت هيمنتها على السلطة، حتى انشقت عام 1988م، إلى جماعتين هما "روحانيت" و"روحانيون"، وفي ظل حكم هاشمي رفسنجاني عبّر هذا الاستقطاب عن نفسه، من خلال خطيّ اليسار واليمين، ومع الرئيس محمد خاتمي تطور الصراع عبر ثنائية الإصلاحيين والأصوليين، قبل أن يتعمق أكثر في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، ويستمرّ على النسق نفسه مع جمهورية حسن روحاني، وها هو اليوم يفرض منطقه على حكومة إبراهيم رئيسي الحالية.
عاصفة اللقاءات
بانتهاء دورته الرئاسية الثانية قبل ستة أشهر، لاذَ الرئيس السابق حسن روحاني بالصمت الكامل، وتركَ الساحة مفتوحة لخصومه في إعداد الملفات، من أجل محاكمته بتهمٍ متعدّدة، لكن ما لبث أن كسر الصمت في لقاء مفاجئ من دون مقدّمات، مع المرشد السيد علي خامنئي، دام ساعة كاملة، أُعلن عنه يوم 26 كانون الأول 2021م، ليكون هذا اللقاء إيذاناً لعودةٍ إلى المشهد السياسي، وصفها خصومه أنها مستعجلة.
ما لبثت هذه اللقاءات أن تطوّرت سريعاً، وتحوّلت إلى حراك استفزّ الأصوليين وأثار غضبهم. فاليقينيّ الذي بين أيدينا من هذا الحراك، لقاء يُعدّ تأريخياً فعلاً بين الرئيس الأسبق محمد خاتمي ومنافسه في رئاسيات عام 1997م، رئيس البرلمان الأسبق الشيخ ناطق نوري.
وصف اللقاء بالتأريخي ليس فيه أدنى شبهة من فائض الألفاظ وابتذالها؛ لأن اللقاء تأريخي بالفعل، فقد جمع بين رمز الإصلاحية الإيرانية خاتمي وأحد كبار رموز الأصولية، أضف إلى تخطي رواسب التنافسية التي كانت بينهما على الرئاسة في انتخابات عام 1997م؛ تلك الانتخابات التي انتهت بفوز كاسح لخاتمي، والأهمّ من ذلك أن لقاء هذا الثنائي كشف من جهة ناطق نوري، أنه قرّر الخروج من العزلة التي فرضها على نفسه منذ عام 2009م، عندما هاجمه أحمدي نجاد ووجّه اتهامات له ولأسرته (وأيضاً لهاشمي رفسنجاني وأسرته ومير حسين موسوي وزوجته) إبّان منافسات الرئاسة الثانية لنجاد مع خصومه، وهو ما اعتبره ناطق نوري، إهانة قاصدة له من النظام، قاطع على أثرها النشاط السياسي، واعتزل متفرّغاً لإدارة مدرسة للعلوم الدينية شمال طهران، بعد أن فشلت جميع محاولات إقناعه للعودة إلى المشهد السياسي، وما شهده من تحوّلات كبيرة عبر ثلاث دورات من الانتخابات الرئاسية ومثلها من البرلمانية.
 
الرؤوس الكبيرة
لم يقتصر الأمر على لقاء خاتمي وناطق نوري، بل شهدنا قبل أكثر من شهرين اجتماعات بين محمد خاتمي وحسن روحاني وناطق نوري وحسن الخميني، وهي المجموعة التي يحلو للبعض أن يطلق عليها "حلقة جماران"، وقتها لم يتسرّب عنها شيء سوى تأكيد وقوعها من قِبل صهر روحاني على ابنته، الشاب المثير للجدل مهندس النفط كامپيز مهدي زادة.
بيدَ أن الخبر الصاعقة هو ما ذكره الأربعاء الماضي (2 شباط) محمود علي زادة طباطبائي عضو اللجنة المركزية لحزب كوادر البناء (أسسه هاشمي رفسنجاني عام: 1995م) والمحامي الخاص لأسرة رفسنجاني، إذ أفاد في حوار مع "ايرنا" (وكالة أنباء الجمهورية
الإسلامية) بأن لقاءات حصلت بين محمد خاتمي وحسن روحاني وعلي لاريجاني ومحمد رضا باهنر واسحاق جهانگيري ومحسن هاشمي رفسنجاني وعبد الناصر همتي، دارت بأجمعها حيال وضع ستراتيجية لـ"إحياء جمهورية النظام"، والتفكير بمبادرة لإطلاق حكومة ظلّ، وأن أسماء أُخر كبيرة ستلتحق بهذه الجلسات المتواصلة، منها حسين مرعشي الأمين العام الجديد لحزب كوادر البناء، ومحمد حسين كرباسچي أمينه العام السابق.
للوهلة الأولى وضعنا الخبر في دائرة الشك، لوجود اسم القيادي الأصولي البارز محمد رضا باهنر، فقد أمضى باهنر حياته السياسية في ظلّ التيار الأصولي، عضواً في البرلمان لسبع دورات (28 سنة!) ونائباً لرئيس البرلمان، ورئيساً لاتحاد المهندسين، فما الذي يجمع بينه وبين رموز الإصلاحية، ويدفعه لتنسيق الجهود معهم، في جلسات عمل مشتركة؟ الأمر نفسه ينطبق إلى حدٍ كبير على رئيس البرلمان السابق علي لاريجاني، فلاريجاني يمكن أن يُصنّف معتدلاً؛ لكنه يبقى أُصوليّ الانتماء، لم يتجرّد عن أصوليته قطّ، حتى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عندما رُفضت أهليته من قِبل مجلس خبراء الدستور، ليدخل سجالاً قاسياً معهم، ما تزال حلقاته متواصلة.
لكن ما لبث أن تقشّع هذا الشك وانزاح بالكامل، وتأكد عندي خبر هذه الاجتماعات يقيناً، عندما هاجمت صحيفة "إيران" الرسمية الناطقة باسم وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية، هذه الرموز في مقال لاذع يوم الخميس الماضي (3 شباط) أشهد أنها بزّت به زميلتها صحيفة "كيهان" اليمينية الأصولية المتشدّدة، ولم توفرّ تهمة أو شتيمة إلا ساقتها بالجملة ضدّ هذه الأسماء واجتماعاتها، إذ هاجمت "آل رفسنجاني" و"آل لاريجاني" وعرّضت بروحاني من خلال أخيه حسن فريدون المتهم بالفساد، وبجهانگيري نائب الرئيس روحاني في قضية الدولار المزعوم، وبناطق نوري الذي منح "عدلاءه" والمقربين له من أسرته، أزمّة إدارة البلد وبوأهم مناصب، بحسب الصحيفة.
لقد بلغ من غضب صحيفة "إيران" أن اطلقت على هذه الرموز السياسية، وصف"ائتلاف السيئين" واتهمتهم صراحة بأنهم "جبهة مناوئة للحكومة" وهم "المسؤولون عن الوضع المأزوم الموجود الآن"في إيران، وقالت إنهم بادروا إلى "تشكيل غرف فكر للحرب النفسية، ووظفوا الفضاء المجازي ضدّ حكومة رئيسي" وأطلقوا "نيران مدافعهم" ضدّها.
 
هوية الرموز
من المفيد جداً بأن نتعرّف بإيجاز على هوية هذه الشخصيات، لكي يسهل تحليل الموقف، واكتشاف مسارات نشاطها، ومواقفها المرتقبة، وخياراتها للمستقبل.
باختزال تضمّ قائمة الحراك اثنين من رؤساء الجمهورية؛ هما محمد خاتمي (1997 إلى 2005م) وحسن روحاني (2013 إلى 2021م)؛ واثنين من رؤساء البرلمان، هما ناطق نوري (1992 إلى 2000م) وعلي لاريجاني (2008 إلى 2020م)؛ ونائب لرئيس الجمهورية لمدتين، هو إسحاق جهانگيري (2013 إلى 2021م)؛ ونائب سابق لرئيس مجلس الشورى الإسلامي، وعضو مجلس مصلحة تشخيص النظام والمستشار الأعلى للرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد، هو محمد رضا باهنر؛ ورئيس سابق لشركة "مترو طهران" وللمجلس البلدي للعاصمة وعضو اللجنة المركزية لحزب
كوادر البناء، هو محسن هاشمي رفسنجاني؛ ورئيس سابق للبنك المركزي ومرشح الرئاسيات الأخيرة، هو عبد الناصر همتي؛ بالإضافة إلى شخصية كاريزمية محورية متميّزة
علمياً، تحمل في تكوينها أعلى مواصفات الرمزية الدينية والشأنية الأسرية، هي حسن الخميني حفيد السيد الخميني ونجل أحمد الخميني.
 
أهداف الحراك
السؤال باختصار ووضوح: ما الذي تريده هذه الشخصيات والتيار المتعاطف معها في حراكها؟ بشأن الأهداف الظاهرة يجري الحديث عن مساعٍ لـ"إحياء جمهورية النظام" و"تشكيل حكومة ظلّ" و"تعديل الدستور"، وهذا المطلب الأخير اختصّ به محمد رضا باهنر دون سواه، بل يمكن القول:إن هذه الدعوة منحصرة به حتى الآن، ما يدفعنا للتفكير ملياً بأبعادها ومغازيها، والمراد الحقيقي منها.
تقودنا هذه الأهداف إلى منعطف آخر شهدته الساحة الإيرانية مؤخّراً، أثار ولا يزال ردود فعل عنيفة، تمثّل بالبيان المشترك الذي أصدره "مجمع روحانيون مبارز" (رابطة علماء الدين المجاهدين) ومعه "مجمع مدرسين ومحققين حوزه علميه قم" (رابطة مدرسي وباحثيحوزة قم العلمية) وكلاهما مصنّف على اليسار الإسلامي سابقاً، وعلى الحركة الإصلاحية حاضراً.حقيقة الحال، أن الحراك الحالي لا يقتصر على الرموز الكبيرة التي مرّت معنا قبل قليل، بل يشمل أيضاً فعاليات حزبية ناشطة، في طليعتها حزب "كارگزاران سازندگي" (كوادر البناء) المحسوب على هاشمي رفسنجاني؛ وحزب "اتحاد ملت ايران اسلامى" (حزب اتحاد أمة إيران الإسلامي) الذي تأسّس عام 2015م، وهو يمثل أنصار محمد خاتمي ومؤيّديه؛ وحزب "اعتماد ملى" (الثقة الوطنية) الذي
أسّسه الإصلاحي الذي يعيش في الإقامة الجبرية، الشيخ مهدي كروبي عام 2005م؛ بالإضافة إلى تيار"سازمان مجاهدين انقلاب اسلامى" (منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية) الإصلاحية الراديكالية، بقيادة بهزاد نبوي ومحمد سلامتي ومحسن آرمين ومصطفى تاج زادة؛ كذلك "مجمع نيروهاي خطّ امام" (رابطة قوى خطّ الإمام) وهو تشكيل يساري قديم نسبياً أسّسه عام 1995م، هادي خامنئي شقيق المرشد.
ما نُريد قوله باختصار: إن بيان "مجمع روحانيون" يختزل لنا أهداف لقاءات القمة بين الرموز الكبيرة هذه، ويضع بين أيدينا على نحوٍ مكثف، الغايات الأساسية التي ينشدها الحراك السياسي والحزبي والاجتماعي، المنبثق عنها.
 
بيان "مجمع روحانيون"
بتأريخ 31 كانون الثاني الماضي، واجهتنا الصحافة الإيرانية ببيان عن"مجمع روحانيون" (رابطة العلماء) وظهيرها الحوزوي في حاضرة قم العلمية "مجمع مدرسين" (رابطة المدرسين) صدر بمناسبة الذكرى (43) لانتصار الثورة الإسلامية في إيران. بيان مطوّل جداً، وهو يتألف من (3715) كلمة، ويتكوّن من مقدّمة و(13) نقطة وخاتمة، وقد جاء أشبه ما يكون بمراجعة تقويمية ووثيقة نقدية للتجربة الإيرانية، خلال أعوامها الثلاثة والأربعين الماضية.
من النقاط التي أثارها البيان تفصيلياً، هو الحالة المعيشية المزرية للناس. فإيران بنص البيان تعوم على بحر من النفط والغاز، ومع ذلك تسجّل الإحصاءات الرسمية تزايد رقعة من يعيش تحت خطّ الفقر، وتآكل متواصل للطبقة المتوسطة، وسط انتعاش أفراد ومؤسّسات غير منضبطة، تشهد تراكماً في ثرواتها ونموّ إمكاناتها، مستغلة العقوبات المدمّرة ضدّ البلد (النقطة: 7 من البيان). لم ينكر البيان ما تحقّق من مكاسب على عهد الجمهورية الإسلامية في جميع الحكومات، لكنه تساءل بجرأة وصراحة غير معهودة: ألم يكن من الممكن تحقيق الكثير من هذه الإنجازات حتى من دون الجمهورية الإسلامية؟ ثمّ سجّل بمنطق المقارنة، أن إيران تخلفت في مجال الاقتصاد والتنمية عن بلدان قرينة لها، وحتى أقلّ منها ثروة وأكثر منها تخلفاً؛ فلماذا حصل ذلك رغم الثروات الأسطورية التي دخلت البلد، إذ لم يكن للشعب منها نصيب إلا القليل، الذي يُعطى كـ"صدقة" وبأسلوب "المنّة" (بحسب النقطة العاشرة) يشهد على ذلك الهجرة المتزايدة للنخب، وانخفاض الرأسمال الاجتماعي، وهروب الرساميل للخارج، والاضرار المتزايدة في البُنية التحتية، والوضع المعيشي الصعب (النقطة: 6).
 
الحرس والمعالجة الأمنية
وجّه البيان نقداً مبطناً لكنه واضح للحرس الثوري، من دون أن يسميه مباشرة، عندما أشار إلى أنه من الخطأ الفاضح أن تتجه القوّة العسكرية المتنامية لهذه المؤسّسة، اتجاهاً بوليسياً - أمنياً في الداخل، وتقوم بمواجهة الناس أحياناً.كما كان من الخطأ ترك المجال للحرس لمراكمة قدراته المالية والاقتصادية والسياسية على نحوٍ واسع، ليكون بسلاحه بديلاً للأحزاب والحياة المدنية، وأن ذلك ليس فقط لم يكن من مصلحة الثورة والشعب، بل لم يكن من مصلحة تلك المؤسّسة الثورية نفسها (النقطة: 9). أشار البيان بدقة إلى أن تأريخية غلبة المعالجة الأمنية على المدنية في الداخل، تعود إلى ملابسات العقد الأول من تأريخ الجمهورية، وكانت مجرّد استثناء فرضته الأوضاع الطارئة، من قبيل الحرب والصراعات المسلحة الداخلية، لكن هذا الاستثناء تحوّل إلى قاعدة فيما بعد، وهذه هي الغلطة الكبيرة.كان من أخطر تبعات هذه الغلطة التأريخية في عسكرة الفضاء الداخلي وغلبة المعالجة الأمنية، هو التضاؤل المستمر في عنصر "الجمهورية" ضمن مركب "الجمهورية الإسلامية" حتى باتت الجمهورية في غياهب المجهول، والمطلوب هو: "إحياء الجمهورية" وإعادة التوازن داخل النظام، بين عنصري "الجمهورية" و"الإسلامية" (النقطة: 10، 13).لبث البيان عند مفاصل داخلية أخرى، ونقدها دون أن يسميها، كما فعل مع"مجلس خبراء الدستور"، قبل أن ينعطف إلى السياسة الخارجية لينقدها، وهو يرفض تأسيسها على عنصر "القوّة العسكرية" وحدها، أو "آيديولوجية العداء" وأمثال ذلك من النزعات الأُحادية، وطالب بالعودة إلى مجموعة موازنات كانت موجودة أو هي ممكنة، من قبيل أن تكون في السياسة الخارجية ضدّ الاستعمار من دون أن تعلن الحرب ضدّ الجميع؛ وأن تعود في هذه السياسة إلى مبادئ العزة والحكمة والمصلحة، وتتحرّك في الوقت نفسه في ستراتيجية التهدئة والسلام مع العالم؛ وأن تُعامل الجميع في الداخل بمبدأ المواطنة، وتسمح أيضاً بالنقد وحتى الاعتراض، في نطاق التعدّدية والحوار والحضور الفاعل للأحزاب؛ وأن أقصر طريق و"أسهله وأقله كلفة لبلوغ هذه الغايات، هي العودة في الدرجة الأساس إلى موازين جمهورية النظام"بحسب النقطة (13) والأخيرة من بيان المجمع.
 
ما وراء ذلك
تضعنا عملية التأمل في ما وراء هذه الظواهر، إزاء هندستين متقابلتين، ترتبط الأولى بأعلى مستويات النظام بمؤسّساته ورموزه، والأخرى بهذا الحراك ورموزه، وأنهما في سباق مع بعضهما لترتيب البيت الداخلي كلاً بحسب رؤيته واجتهاده، وذلك وسط متغيّر نوعي كبير يتمثل بمستقبل الجمهورية الإسلامية ما بعد المرشد؛ وهذا هو جوهر الحراك وأساس الاستقطاب بين النسقين، وكلّ ما عداه فروع وتفصيلات.