ترددات الموت والحياة في ديوان {بل}

ثقافة 2022/02/12
...

  سهير السمان 
الفن هو التعبير عن الذات بطرق منتخبة، كما يقول ماكس جاكوب في معرض حديثه عن قصيدة النثر، هذا الفن الذي شق طريقه تاركاً خلفه قيود القصيدة القديمة، لينشد تطور لغة التعبير التي عبر عنها ستاندال في مؤلفه (راسين وشكسبير) إذ رأى أن وزن الشعر يحول من دون استخدام الكلمة المحددة، والتعبير المناسب، كما أن الشعر ليس في شكل الأفكار، ولكن في الأفكار نفسها كما يقول هيجو في عام 1822، إذ لا يوجد غير ثقل واحد يستطيع أن يرجح كفة الفن، هو العبقرية.
إذن فالشعر فضاء وعالم لا حدود له، لحظة مشعة تفيض خارج النهر، عابراً حدود المصب وهو ما نستطيع أن نجده في ديوان «بل» للشاعر اليمني محمد العبسي، إذ يفيض، ويروي مكامن الجدب، ويعيد للروح براءتها ونظرتها الطفولية للأشياء والكائنات من حولها.
في ديوانه «بل» تستوقفنا المقدمة التي خطها الشاعر العبسي، لتنقل رؤيته للغة جديدة وسهلة، ولكنها عميقة في الآن ذاته، اللغة التي يراها كائناً متمردًا، تطالب بحقها في العودة إلى طبيعتها وسجيتها، تعبر وتهمس وتغني وترقص من دون أن تتقمّص أو تتبهرج، أو تتلبّس أقنعة ما، لغة شعرية إنسانية لا تحدها الأوزان والقوافي، وتعلن استقلالها عن الموروث، فالعبسي في مقدمته يرى أن قصيدة النثر تصحح زلات الآباء وتخفف من الخطابة التبشيرية، وتؤكد استقلالية الوظيفة الجمالية للفن، وتحررها من التعيينات.  
ومما قاله أنسي الحاج عن مقدمة ديوان (بل): يذكرني محمد العبسي في مقدمة مجموعته (بل) بالعديد مما جزمت به في مقدمة (لن) ونقضته في قصائد (لن) نفسها. يؤلم هذا التذكير، وينعش اليقين بأن لا دائم في التنظير، لا ما يتناول الشكل فحسب، بل الجوهر، وهل نعرف الجوهر لنحجمه؟ وأليس لكل جواهره. 
الديوان صادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة في 178 صفحة، يصور الشاعر ألم ذاته من خلال الأشياء والكائنات من حوله، يتصالح مع الموت ويحاوره، ويكاد يكون الموت هو الثيمة الجامعة لقصائد الديوان. 
تتجلى تجربة الشاعر هنا في توسيع أفق الكتابة الشعرية، من خلال خرق مفهوم الجنس الأدبي فتذوب حدود الكتابة، ما نلمسه هو أنه يكتب لكي يُشفى، غير مهتم بالضبط والقواعد المقررة، هو شعر ينشد به الخلاص من الألم، وقد ضم الديوان واحدة من قصائد رثاء أمه التي ترك رحيلها وجعاً في نفسه، وفتح باباً للمواجهة مع الموت، فظل الموت نظيراً شعرياً لأكثر قصائد المجموعة، في قصيدته «ليلة في المقبرة» يلوذ بالموت من الحياة: (أذهب أحياناً إن ضاقت بي صنعاء إلى المقبرة/ أنسى الدنيا والناس والعادات/ وآتيك ولو في جوف الليل/ كل الطرق تؤدي يا أم إلى القبر/ والقبر سرير آوي إليه كثيراً/ أمتد على ظهري، أبكي/ تحتي أنتِ، وفوقي هو/ وأفكر في جدية/ وجود حياة أخرى/ قبرك يا أمي أريح من عطب سريري/ قد أملأ جيوبي بحجارة قبرك/ أو أمرخ جسمي بتراب القبر).  
ويمضي العبسي في مناجاة أمه في قبرها، في صورة مشهدية خالية من اللغة الاستعارية، تكشف عن صبي شقي يحاول استعادة طفولته، ويجعل من قبر أمه حضنا دافئا، ينظر من فوقه وهو ممدد نحو السماء الزرقاء، ويسأل أمه عن ملك الموت، وعن هيئة الحياة الأخرى. 
وعلى الرغم من سوداوية الموضوع ورهبة المكان، إلا أنه يخلق حواراً شفافاً معه، فيجعل من ذلك المجهول كائناً يستحضره، ويعاتبه، ويواجهه، يتمرغ فوق ترابه، يثقب فتحة في القبر ليلمس كف أمه. 
بل إن الموت هو من جمع أحبابه بعد أن تفرقوا في الحياة. فُيحدِّث أخاه الذي فقده أيضا، ويستدعي ذكريات طفولتهم في نسق درامي يتداخل مع الشعر.   
(وحدي/ الآن أمام ضريحك/ أنت وأمي... جيران يا عادل/ بينكما بضع قبور/ أختي في الجهة المقابلة/ أترى يا عادل/ كيف تجمعت العائلة هنا في المقبرة/ وكانت أشتاتاً خارجها).  
ما نجده في قصائد العبسي هي تلك المفردات المتداولة في الحياة العادية، ومن اليومي والهامشي، لنقول عنها نثر الحياة، لا فرق بين الحياة والموت في نثره كأشياء معتادة، يستدعيها لعقد الصلة بينهما، بينما الحياة عنده ليست إلا موت، وهنا يتداخل الشعر مع السرد، وينصهران في بوتقة واحدة.
(والآن/ أتذكر قصة مشروب الميراندا/ كنا نلعب بالصالة/ أنا في السادسة وأنت ابن العاشرة/ خالي أحضر لكيلنا قارورة ميراندا مع بسكويت، كانت فرحتنا لا توصف، ذلك أنا لا نشربها إلا في الأعياد، وما ندر).
.... يكرر الشاعر موضوع الموت ويطغى على باقي أفكاره إذ شكّل قصائده وأثقل على ذاته، الموت الذي أخذ أحبابه تباعاً، ربما هذا الإصرار في نبش الموت يعد محاولة لأن يألفه، ويتقبّله، ويتعايش معه.
(حتى الموتى/ يمكن أن نستدعيهم/ أن نشرب معهم فنجان قهوة/ أو نسهر للصبح/ وأن نتعارف أكثر)
لا فرق بين الحياة والموت، فالحياة التي يحياها هو والآخرون لم تكن سوى موتا، وهو ما بثه في الكثير من قصائده في الديوان، ويرى في الموت ولادة وحياة. 
(بي/ رغبة صياد/ في إنقاذ جميع الغرقى/ لكن أحياناً/ ولبعض الأشخاص/ أظن أن الغرق نجاة/ والموت ولادة).
محمد العبسي الشاعر الذي يخرج في ديوانه هذا عن مهنته في الصحافة والتي سببت له الكثير من المتاعب، كان صوته من أكثر الأصوات ارتفاعاً في عالم النقد السياسي، ويدا تنبش في أوراق الفساد الاقتصادي الذي جعل من الشعب أمثولة في الفقر والمعاناة، وكان يعلم أن غوصه المرفوض في ملفات الهوامير إيذانا بموته المبكر، وكان ينتظره بكل سخرية. 
(الحوت الأزرق يقترب/ هل هذا هو عزائيل/ هل هذا من قبض الركاب الصوماليين؟ / هل تأتي يا موت على هيئة شاحنة مسرعة/ هل تأتي في الحرب في قنبلة/ أو زر صاروخ/ فما بالك أحيانا تأتي على شكل زحلقة في الحمام). 
ومما لا شك أن العبسي كان متيقنا أن كل عاصفة كان يشنها ضد الفساد في 
كل مقال وتحقيق يقوم به، تجذب إليه 
الموت. 
(الصياد/ يصوّب بندقيته/ نحو سرب طيور وحمام/ لكن أرأيت غرابا مثلي هدفا للصيد؟ / الموت وسيلة جذب/ والغيب كرمية نرد/ وأنا عاصفة في دولاب). 
ولا بد أن نشير هنا أن ديوان (بل) لم يكن ديواناً يحتفي بالموت، بصورته المخيفة المعتادة لدى الناس، ولكنه احتفاء بموت يخص محمد العبسي، موت يراه بوابة لحياة جديدة، لأنه كان يرى الموت في الحياة التي يحياها ويعيشها اليمنيون من حوله، الموت الحقيقي في وجوه الفقراء، ومعاناتهم، الأمر الذي جعله يتمنى أن يكون أي شيء آخر غير الإنسان. (ليتني ولدت ملاكا مهمته/ ملاعبة الأطفال الرضع/ أو قابض أرواح/ يخلصهم من عبء الحياة/ ليتني عشبة/ بين حجرين/ ليتني ولدت بلا أبوين/ من سديم أو خيط هلام/ ليتني ولدت صرصوراً/ يؤنس بصفيره سكان المقبرة). 
هذه البشرية التي أثقلت الروح، وصبت الإنسان في قالب المعاناة، والتكرار الأبدي لسلسال النسب الثقيل، وهشاشة الوجود، أصبحت عالما يرفضه العبسي، فاحتضن الموت مبكراً بلا أسف على الحياة.
يذكر أن محمد العبسي، إعلامي، وشاعر ولد في صنعاء عام 1983، وتوفي 2016. في شبهة قتل بالسم.  
بدأ محمد العبسي مسيرته الصحفية بالعمل في القسم الثقافي بصحيفة الثورة عام 2002، وتولى الإشراف على الصفحة الأدبية اليومية فيها عام 2004، ثم أصبح عضواً في هيئة تحرير مجلة الثقافة الصادرة عن وزارة الثقافة عام 2004. ثم عضواً في هيئة تحرير مجلة الاستثمار الاقتصادية عام 2006. وكتب في عدد من الصحف المحلية المستقلة كـ «النداء» و«الشارع» و»حديث المدينة» و«الأولى»، وعمل كاتباً ثم مستشاراً في صحيفة «الأهالي» عام 2007. كما كتب في عدة صحف عربية، وكانت لديه مدونته الخاصة على الإنترنت.