اليوميَّات بمزاج قصيدة التفعيلة

ثقافة 2022/02/12
...

  عادل الصويري
 
يبدو أنَّ الانهماك بالتدوين الفني للتفاصيل اليومية الحياتية؛ أصبح همّاً يلازم الشعراء الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إخراج القصيدة من ثوبها التقليدي القديم، حتى صارت القصيدة التي تتعاطى مع الشأن اليومي الملتصق بالحياة باباً يفضي إلى أبواب أخرى بعدة اتجاهات. وكل هذه الأبواب والاتجاهات المتعددة تنأى بالنصِّ عن الغامض وغير المفهوم على صعيد الدلالة والمعنى، وعن المستويات المجازية والبلاغية المبالغ فيها إذ تكون القصيدة اليومية بيتاً تتشكل غرفُهُ من الانفعالات والحوادث الناتجة عن البيئة زمانياً ومكانياً عبر التلميح الذي يزاوج البساطة بالتكثيف.
وعندما نتحدث عن شعراء يأخذون على عاتقهم مهمة تحديث القصيدة وإخراجها من جلبابها القديم؛ فنحن لا نعني اختصار الحداثةَ بشكل محدد من الكتابة الشعرية نثراً وهو الشكل الجدلي غير المتفق على تجنيسه وتسميته.
الشاعر الشاب زين العابدين المرشدي، يستثمرُ مقدرتَهُ في كتابةِ النَصِّ التفعيليِّ؛ لتدوين يومياته وتفاصيله، خصوصاً في قصيدتِه (دواجن ترعى بالقُربِ مِنَ الحقل)، والتي تبدأ بـ:
«في هذا العالمِ
في تلكَ اللحظةِ، في الشارعِ،
أقصى ما أطمحُ؛ أن أَصِلَ الدارَ الكونَ
فَكوكبيَ الغُرفة
دربُ التَبّانةِ: دربي للمطبخِ لا أكثر»
من خلال هذا الاستهلال؛ يبدو أن الشاعرَ يقدمُ لقارئهِ نَصَّاً هو أقربُ لفن (المونودراما)، حيث الصوت الواحد (صوت الشاعر) 
الذي يستدعي المكان (البيت) ويعدُّهُ كوناً مطلقاً، وكأنه يريد أن ينقلنا إلى يوميات كونية. 
وما يعزز هذه الرؤية هو استمرار الشاعر في استدعاءاته الكونية، إذ تكونُ الغرفةُ كوكباً، قبل أن يفاجئ قارئ النصِّ بتعريفٍ صادمٍ للمجرّة الكونية الكبرى (مجرّة درب التبّانة) ويختصرُها بمزاجه الشاعريِّ بأنها مجردُ دربٍ للوصولِ لمطبخ البيت لا أكثر.
وبعدَ هذه الرواية القصيرة التي يسردها الشاعر ينتقلُ بتفاصيله المونودرامية إلى منطقة أخرى تتعلق بظروف كتابة النص:
أحياناً يُزعجُني الشعرُ ويبدو لي
من غيرِ مواعيدَ مُرَتَّبَةٍ كالخللِ الصِحِّيِّ تماماً
وأنا أكتبُ هذا النصَّ، نعم، في هذا النَصِّ
سمعتُ بموتى جددٍ في القربْ
ماتوا في هذي الحربْ.. أو ماتوا في تلكَ الحَرْبْ
فَشَرِبْتُ الماءَ وأكملتُ كتابةَ هذا النصَّ
رغبتُ له لو أنّي أُكْمِلُهُ أتغزَّلُ بامرأةٍ لولا ما تصنعهُ الأنباءُ وتُحزنني.
 
إنَّ زين العابدين المرشدي شاعرٌ يعرفُ ما يريدُهُ بالضبط، وأجده واعياً تماماً لاشتغالاته الشعرية في هذا النص، فهو يديم الصراع بالسرد واستدعاء الأمكنة، ويشرح الظروف المحيطة بقصديته في كتابة النص عبر تنويع مصادر الصراع التي نقلها من استدعاء الرمزيات الفلكية في المقطع الأول (الكون الدار/ الكوكب الغرفة/ درب التبانة المطبخ) إلى تقديم الضجر الذي صاحبه لحظة الكتابة؛ لأنه سمع بأصوات الموتى الجدد، وهنا يقدم لنا مشهداً سوريالياً وواقعياً في ذات اللحظة.
ولا ينسى أنه يقدم نصّاً يتعلقُ باليوميات والتفاصيل، فيجعلنا نراه يشرب الماء؛ ليكمل القصيدة التي حاولَ فيها مغازلة امرأةٍ افتراضية، غير أن الواقعَ اليوميَّ فرضَ نفسه من خلال نشرة الأخبار، فأفسدَ أمنيته.
وفي المقطع الأخير من النصِّ يستمر الشاعرُ في الحديث عن النص، لكن مع خلاصة مأساوية:
«ولذا أختصرُ الآنَ لكم:
أقسى كارثةٍ في الشرقِ الأوسطِ؛
إذْ يفقدُ هذا الموتُ مهابتَهُ الكونيةَ فيه،
وأقسى كارثةٍ أن يبدو هذا الموتُ هنا مألوفاً غيرَ مُخيفٍ للناس،
وَيُربِكُني الآنَ بأنّا نألفَهُ
كدواجنَ ترعى بالقربِ مِنَ الحقلْ
هذا ما يجعلُني خوّافاً في هذا العالمِ
في هذا الوَحلْ.
 
لقد شغلت موضوعة الموت مساحات واسعة من الدراسات النقدية التي اهتمت بالشعر العربي، وأكثر الشعراء تعاطوا مع هذه المفردة في قصائدهم بصور ورؤى متعددة، لكنهم لم يصلوا إلى هذه الخلاصة الغريبة عند زين العابدين المرشدي، الذي عبّر عن صورة الموت المألوف بسبب مآسي الشرق الأوسط، وحروبه المجانية، بأنها صورة مألوفة، وليس ذلك فقط، بل إن المربك هو أن الإنسان بدأ يألف الموت كالدواجن التي ترعى قريباً من الحقل، فالدواجن ربما إنسان الشرق الممزق، أما الحقل فهو الكذبة الكبيرة المسمّاة حياة، وهي في حقيقتها مجرد وحل.
ويقدم الشاعر مهدي النهيري في قصيدته (سفن الإشارة) يومياته على طبقٍ سرديٍّ إيقاعيّ، لكنه يؤنسنُ هذا اليوم؛ ليجعلهُ شاعراً مثله يشبه صفاته ويشعر مثله، يقابلُه، ويبثُّ له الصراعات المحتدمة داخل الشاعر، والتي تتشكل عبر استفهامات متكررة:
«مللتُ الرسوخَ على قصة الانتظارِ طويلاً، هلاّ تذكَّرتَ أنَّ ابنَ آدمَ منتظرٌ أن يجيءَ إليهِ ابنُ آدمَ يُشْبِهُهُ. رجوتُكَ دع ما لديكَ التفتْ للمنافي التي تتسلَّقُني، هل تستطيعُ الدخولَ إلى عالمي؛ كي تساعدني؟».
 
اللافت أنَّ الشاعر رغم إيقاعيَّة قصيدتهِ، نراه كتبها بطريقة سطرية أشبه بالراوي الذي يتحدث، في قصدية شكلانية لمقاربة أجناس الكتابة فيما بينها.
الشاعر هنا رغم أنه يلتقي يومه كلَّ يومٍ لكنَّه ملَّ من هذه اللقاءات التي تجعله منتظراً؛ لذلك يريد ليومه أن يتحول إلى صديقٍ يضع يده على كتفه ليسنده فيأتي جوابُ يومِه:
«شُغْلي ألمُّ التعاساتِ، ثُمَّ أطوفُ على الشعراءِ، ولا أدَّعي أنَّني إذْ أوَزِّعُها، سأوَزِّعُها بالتساوي، ولكن على حسب ما أشتهي.
قلتُ: لا بأسَ وادخُلْ وهاتِ التعاساتِ شرطَ وقوفكَ في محنتي».
وترتفعُ القصيدة الحواريّة المُطوَّلة، وتتنوَّعُ إيقاعاتُها ساردة يوميات الشاعر وتناقضاته، بل وخلافه حتى مع يومه الذي صار صديقاً شاعراً يسمع له وينصحه، ويقف إلى جانبه في محنته، ومع ذلك لم يتَّفقا.