شكراً سيادة المحرر

ثقافة 2022/02/12
...

  علي محمود خضير
 
لزمني من الوقت سنتان حتى نشرتُ قصيدتي الأولى في الصحافة المحليّة، بقيت أراسلُ عناوين محرري الصفحات الثقافيّة، محاولاً دفع اسمي إلى واجهة الأضواء من دون جدوى، حتى ردود الاعتذار والمواساة لم تكن تصل. كانت هذه الأربعة والعشرون شهراً مختبراً للصراع، وسؤال الذات؛ إن كنتُ قد سلكت السبيل المناسب لي، لكن الكتابة قدر محتوم، يَختارُ من يريده، حتى لو توهمنا العكس. كما كانت، الفترة، محفزّاً للعمل على الكتابة، بالقراءة والتعلم والصقل والانصات لمادة الفن الأوليّة، الحياة. كنت مستعجلاً وبرماً لعدم النشر، لكنني حاولت الإفادة من الرفض بإعادة النظر. الرفض جزء من هذه المهنة. وقد يكون الجزء الأفضل فيها، لأنه يمنحك فضيلة التريث والتمعن بما صنعت. فرصة أن يعود نصّك إلى البيت لتهذبه وتنقّيه وتدفع فيه أمصال مقاومة العالم والوقت قبل زجه من جديد إلى الأمواج المتلاطمة، حيث لا يمكن استعادته أبداً. كأنك موكول إلى نداء غامض، يدفع إلى ذلك الإشهار والتعرية الذي هو نتيجة ثانوية لتفاعل الكتابة.
يقال أن بروست عانى من رفض روايته «البحث عن الزمن المفقود» طويلا، وتعرض إلى نقد لاذع من دور نشر “فاسكال”، و”غاليمار”، “بعد 712 صفحة من هذا المخطوط، وبعد كمٍّ لا ينتهي من خيبات الأمل والغرق في تطورات معضلية لا منفذ لها، لا نزال نجهل حتى الآن.. فحوى الموضوع”. حتى اضطر لاحقاً لطباعتها على حسابه، وهو مصير كتاب بورخس الأول.
يرى بعضُ الكُتّاب المحررَ عقبةً، وقد يكون عقوبة، وتراه الذات الكاتبة تعقّباً يتأرجح بين التحفيز والانسحاب.
لكن، ماذا لو اختفى دور المحرر؟
إن الحديث عن (ديكتاتورية) محرري الصفحات الثقافيّة وتحكّمهم هو ذريعة لمن يريد الهروب إلى الفوضى، فوضى النشر والطباعة والترشيح للمهرجانات والجوائز، وهي فوضى مدمرة نلمس تأثيرها واضحاً على صفحات التواصل الاجتماعي، إذ بإمكان المرء قراءة نص جديد كل خمس ثوان. ظاهرة أضرّت بالنتاج الأدبي، والشعر أكبر الخاسرين، إذ حولته إلى بضاعة لا “يُقلِّبُها” أحد، لأنها معروضة، دائماً، وبالمجان..
يدافع البعض عن حرية النشر عبر الإنترنت، والقول بتوفير الفرصة للجميع لتحقيق ذواتهم عبر الكتابة أمر مقبول، غير أنه منزوع من تداعياته، وأهونها هروب دور النشر من الشعر واضطرار الشعراء الى دفع الأموال (والتوسُّط!) مقابل نشر نتاجهم، يتساوى في ذلك الكاتب الجيد والرديء. 
أما أفدح التداعيات فإضرار معيارية القيمة الأدبية لهذا الفن، حتى صار مسرحاً للتندر، فضلاً عن عجز النقد عن المواكبة، والتشويش على القارئ الذي عاقب الجميع بمقاطعة القراءة.
لم يعد النشر مشقة هذه الأيّام، صفحة على «فيسبوك» وبضعة دولارات للتمويل تجعل قصيدتك/ روايتك على آلاف الأجهزة. مبارك، أصبحت مشهوراً! وليذهب المحرر والناقد والقيمة الأدبية إلى الجحيم. لكن أي معنى لهذه الشهرة؟ حين تغدو معياريتها: من يدفع أكثر لمنصة التواصل يشتهر أكثر. هكذا صار الجميع مشاهير! إنني أبحث، وبكد حازم، ولتبحثوا معي رجاءً عن الشعراء العاديين، أين هم يا ترى؟
*
علينا أن نشكر المحرر في كل مرة تعود فيها القصيدة إلى البيت.