تكاليف الحرب مع روسيا

قضايا عربية ودولية 2022/02/13
...

 ماثيو بوروز
 ترجمة: أنيس الصفار                                              
قبل الاندفاع في مواجهة شاملة مع روسيا ينبغي على إدارة بايدن أن تنعم النظر جيداً في العواقب بعيدة المدى التي ستتحملها الولايات المتحدة وحلفاؤها، إذ يحذر المعلقون من أن تصل مغبة التصعيد حد التورط في حرب عالمية ثالثة، ناهيك عن عدم جدوى العقوبات التي تفرض على الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”. 
 
المواجهة مع روسيا ستترتب عليها عواقب ستراتيجية أخرى على الولايات المتحدة أن تسعى إلى تجنبها، فالعقدان الماضيان كانا مفعمين بمفاجآت مؤسفة بدت في أول أمرها أفكاراً صائبة. يتذكر معظمنا كيف أطلق القادة السياسيون الأميركيون الوعود بنشر الديمقراطية في أفغانستان والعراق، ثم رأينا كيف انقلبت هاتان التجربتان المكلفتان إلى انكسار مهين فانسحاب، لاسيما في حالة أفغانستان. في حالة روسيا أيضاً هناك تبعات على الولايات المتحدة وحلفائها أن يقلقوا بشأنها، برغم أن موسكو هي الطرف الذي أثار الأزمة الحالية وبرغم الإقرار بضرورة إرغامها على الإذعان.
هناك أيضاً التأثيرات من الدرجة الثانية والثالثة، وهذه يصعب جداً التكهن بها مسبقاً، فالعدائية التي أبداها المجتمع الدولي في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في 2003، بما في ذلك ما أبداه الحلفاء الغربيون، لم تكن في الحسبان أبداً يوم وقعت أحداث 11 أيلول وما رافقها من عواطف متدفقة. في ذلك اليوم أجمل العنوان الرئيس لصحيفة “لوموند” القضية بعبارة واحدة: “كلنا أميركيون.” وعلى غرار ذلك كان الأمر إبان أزمة الصواريخ الكوبية، إذ لم يكن يدور بخلد “نيكيتا خروشيف” أنه سيرغم على الاستقالة، ولكن هذا هو ما حدث في نهاية الأمر بعد عامين من الأزمة.
التنبؤات الدقيقة لا تكون ممكنة عادة، والأزمة الأوكرانية الحالية ليست استثناء، لكن هذا لا يعني ألا يتأمل المحللون والمراقبون التداعيات على المدى البعيد من أجل درء ما من شأنه الحاق الضرر بالمصالح الأميركية. هذا الأمر بالغ الحيوية في نظام دولي يمكن فيه لأصغر القرارات وأبسط التعديلات التي يتخذها زعماء العالم أن تسفر عن أوخم العواقب. 
أبدأ حديثي مستمداً العبرة من خبرة عقدين قضيتهما في الاستقراءات والتنبؤات الستراتيجية، في “وكالة الأمن القومي” أولاً، ثم الآن في مؤسسة “المجلس الأطلسي”، ومن موقعي هذا أطرح أمامكم ما الذي يتهدده الخطر هنا، مبتدئاً بثلاثة تحذيرات خطيرة.
 
عالم مفكك العرى
أولاً: بينما تلوح في الأفق بوادر حرب باردة جديدة فإن تصاعد الأزمة الأوكرانية من شأنه تكريس ظهور عالم متشعب المحاور. 
خذ الصين مثلاً، فخلافاً لموقفها الذي اتسم بالصمت يوم ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، هاهي تعلن تأييدها لدواعي قلق موسكو الأمنية، ولا شك في أن بوتين سوف يستغل مناسبة حضوره دورة الألعاب الأولمبية في بكين ليطلب مساعدة الصين في تخفيف آثار العقوبات الغربية على بلاده إلى أدنى الحدود. وإذا ما سعت الولايات المتحدة إلى معاقبة الصين جزاءً لها على مساعدتها روسيا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية، فإن التوترات الصينية الأميركية، المتأججة أصلاً، قد تتفجر لتنبثق منها أزمة جديدة. في واشنطن وبكين هناك من يتوقون إلى فصل اقتصادي البلدين عن بعضهما، برغم ما سيمليه هذا من أثمان باهظة، وبرغم أن التقديرات تشير إلى أن قطاع الأعمال يمكن أن يخسر ما يصل إلى 190 مليار دولار سنويا كخسارة صادرات، في حين سيستشعر المستثمرون الأميركيون وطأة عجز ربما يصل إلى 25 مليار دولار. لا حاجة بنا للقول إن الصدمة الاقتصادية التي ستنجم عن انفصام عرى أكبر اقتصادين في العالم عن بعضهما سوف تخرج حالة التعافي التي بدأ العالم يشهدها عن مسارها، في تزامن مع الانتخابات النصفية للعام 2022.
 
تعاون روسي صيني
ثانياً: بمنأى عن مدى فعاليتها في ردع روسيا، قد تدفع العقوبات الأميركية والأوروبية الصين إلى الإسراع بخططها لتطوير عملتها الرقمية المسماة (e-CNY) وبذلك تساعد روسيا، كما تساعد نفسها، على تفادي أية عقوبات أميركية ثانوية. روسيا عملت من جانبها أيضاً على تطوير بديل لنظام “سويفت” (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) أسمته (SPFS)، بيد أن اليوان الرقمي هو التحدي الأقوى للدولار الأميركي، كما أنه ينطوي على إمكانية مستقبلية لتعزيز نفوذ الصين بين دول “الحزام والطريق”. 
 
العلاقات عبر الأطلسي 
ثالثاً: الشروخ التي بدأت بالظهور بين الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا الغربية يمكن أن تتفاقم وتتدهور إذا ما ردت موسكو على العقوبات الأوروبية بقطع تجهيزات الغاز، وهناك منذ الآن تقارير إعلامية تشير إلى تنامي القلق لدى أميركا والاتحاد الأوروبي بشأن هذا الاحتمال. كإجراء احترازي إزاء ذلك مدت الولايات المتحدة يدها إلى قطر في حين يخطط الاتحاد الأوروبي لمفاتحة أذربيجان. برغم ذلك تعتقد “بروغل”، وهي مؤسسة للدراسات مقرها بروكسل، بأن إيجاد مصادر بديلة لن يكون كافياً لسد النقص الذي سيخلفه فقدان الوقود الروسي الذي يشكل حالياً 40 بالمئة من واردات الطاقة الأوروبية. وفقاً للتحليل الذي تطرحه “بروغل” سيترتب على الاتحاد الأوروبي أن يقلص الطلب، وهذا سيتضمن قرارات صعبة ومكلفة تتخذها حكومات تناضل من أجل الحفاظ على تعافيها الاقتصادي، وبالرغم من أن برودة الشتاء الحالي في أوروبا لم تكن بالشدة المتوقعة، فإن انخفاض درجات الحرارة يمكن أن يعقد المأزق الأوروبي بكل سهولة. لا شك في أن الحكومات الأوروبية ستلقى لوماً من مواطنيها إذا ما حدث عجز في التجهيز أو ارتفاع شاهق في أسعار الطاقة خارج عن حدود السيطرة. كذلك ستتسبب الاضطرابات بعيدة المدى في الحياة اليومية للأوروبيين بمشاعر استياء قد تجبر العديد من الحكومات الأوروبية على فض شراكتها مع واشنطن والنأي بنفسها عن الشأن الأوكراني.
 
اغتنم الفرصة المتاحة
تعلمنا من حكمائنا ألا نضيع أزمة تعمل لصالحنا ويمكن أن تعود علينا بفرص كبيرة. برغم صعوبة التصور فإن حل القضية الأوكرانية قد يكون هو البداية لانفراجة كبرى في العلاقات بين روسيا والغرب، ومن شأن ذلك أيضاً أن يساعد الرئيس “جو بايدن” على إصلاح الضرر الذي لحق بصورته جراء انسحابه المتسرع من أفغانستان وتعزيز شعبيته المترهلة. لا يقل عن ذلك أهمية أن أي اتفاقية تتيح لروسيا الادعاء بأنها تمكنت من تحقيق بعض المكاسب، يمكن أن تساعد في إقناع بوتين بأنه لا يزال قادراً على التعامل مع الغرب، وبالتالي تقلل ميله لتعميق علاقاته مع الصين، كما أن إبرام اتفاقية متبادلة تعزز الحد من التسلح، وما يتبع ذلك من إجراءات بناء الثقة، من شأنها حتى إصلاح منظور الولايات المتحدة حيال استساغة التفاوض مع الصين للتوصل إلى اتفاقيات للحد من التسلح وكبح الصراعات. حل الأزمة الراهنة سلمياً سينزع المصداقية أيضاً عن مقارنات الاسترضاء الزائفة التي كثيراً ما يتذرع بها للصد عن أية محاولات للتفاوض مع موسكو أو بكين.
صياغة تسوية سلمية قول أسهل من فعل بطبيعة الحال، ولكن على إدارة بايدن عدم التخلي عن هذا الهدف الآن. لقد تعاطت الإدارة مع الأمر إلى حد كبير على أساس رد الفعل حين رفضت ثم أملت من الروس أن يتخلوا ويتراجعوا خوفاً من الوعيد والتهديد بالعقوبات. مقابل ذلك سيكون دفع أوكرانيا للانخراط مع أعضاء “هيئة محادثات النورماندي” وإعادة تنشيط عملية منسك للسلام، تحركاً مرحباً به من قبل الحلفاء الأوروبيين. يعتقد بعض المحللين بأن إمكانيات التقدم قائمة وفق إجراءات استقرار الوضع على خط التماس في الدونباس، ومن ضمن ذلك سحب الأسلحة الثقيلة وتعزيز مهمة “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” .. كل هذا سوف يؤدي إلى خفض التوترات بين روسيا وأوكرانيا. أما في ما يتعلق بتوسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فبالإمكان التوصل إلى اتفاقيات لإنشاء منطقة عازلة بين روسيا والناتو. 
من المشكوك به أن يكون ما ذكرناه كافياً لإرضاء التمنيات الروسية، بيد أن أجواء الثقة التي سيتمخض عنها الأمر كله قد تعين كلا الجانبين على التوصل إلى صيغة تفاهم بخصوص الناتو. دعنا لا ننسى أيضاً أن ضم أوكرانيا إلى عضوية حلف شمال الأطلسي في وقت قريب احتمال لم تكن لتتخيله إلا قلة قليلة من المتابعين.
قد يتراءى للإدارة الأميركية أن العمل بأسلوب “الخبط العشواء” أقل مجازفة على المدى القصير، برغم هذا يمكن أن يؤدي الفشل في التوصل إلى اتفاق مع روسيا إلى شكل من أشكال التدخل العسكري الروسي بالإضافة إلى الهجمات السبرانية وانقطاع الطاقة واستخدام الحركات المتمردة العاملة بالوكالة في ارتكاب أعمال القتل والتهجير بحق كثير من الأوكرانيين وتمزيق البلد شر ممزق. كذلك سيكون للمماطلة وإضاعة الوقت ثمن. تريد إدارة بايدن أن تتجنب التورط العسكري في أوكرانيا ولكن حتى لو اقتصر الأمر على عمليات روسية محدودة النطاق سيجد بايدن نفسه تحت ضغط من جانب الكونغرس وأطراف أخرى لإبداء مشاركة أنشط من خلال توفير السلاح وإرسال المدربين العسكريين وتبادل المعلومات الاستخبارية بما يحول أوكرانيا فعلياً إلى ساحة حرب بالوكالة بين حلف الناتو وروسيا. كذلك ستجد الإدارة نفسها تحت الضغط لتطبيق إجراءات اقتصادية قاسية كانت تدخرها في ما مضى لمعاقبة موسكو جزاء لها على حدوث غزو شامل، وهذا كله يمكن أن يتسبب بحدوث تصدع مع الحلفاء الأوروبيين. 
الإدارة الأميركية لم تكن موفقة في تأمل الارتدادات المحتملة لانسحابها من أفغانستان، ولكن الوقت أزف لتأمل التداعيات بعيدة المدى التي يمكن أن تنجم عن عدم التوصل إلى اتفاق مع بوتين.
عن مجلة 
“ذي ناشنال إنتريست”