فِي هذه اللوحة التي رسمها الفنان البريطاني جون ميليه، نرى فتاة عمياء تجلس على حافة ساقية، صحبة أختها الصغيرة، تأخذ الفتاتان مكانهما في مقدمة اللوحة ويبدو خلفهما حقل مترامي الأطراف في الريف الانجليزي، وقد وضعتْ هذه الفتاة الأوكروديون الصغير في حجرها بعد أن تسلَّتْ به وسط سكون الحقل.

وفي التفاتة مفاجئة تستدير أُختها الصغيرة نحو السماء حيث يظهر قوس قزح، انبهرت الصغيرة بالمشهد الذي داعب خيالها، لكن كيفَ ستجد الطريقة التي تخبر بها أختها عن هذا الشيء الملون الذي يسمونه قوس قزح؟

كيف ستشرح لها هيئته وألوانه؟

كيف تقرّب المشهد لقلب أختها العمياء؟

الجمال يحبس الأنفاس والفتاة العمياء ساهمة في خيالها وسط الظلام، بينما الأخت الصغيرة تشد قبضتها على يد أختها الكبيرة وتسترسل في الحديث عن هذا الشيء الساحر الذي انبثق وسط السماء وأضاء كل الحقل.

ما الذي تفكر به الفتاة العمياء ياتُرى؟ 

وكيف ستستجيب لنداء أختها وهي تعلن لها عن قدومِ هذا الزائر الملون الذي ارتفعَ فوق سماء حقلهم؟

إنها بالكاد تُفكر بلون العشب وتستشعر هيئة الطيور التي ملأت المكان، هي التي لا يمكنها التمييز بين لون فستانها وفستان  شقيقتها الصغيرة؟! هي تستطيع أن تتعرف على رائحة الحقل وعذوبة الهواء، لكنها لم تختبر قوس قزح ولم تتخيل هيأته النهائية.

شعر أحمر ووجه مضيء، يا لهُ من معادل مثالي لقوس قزح الذي أضاءَ السماء البعيدة الخيالية التي لا تستطيع هذه الفتاة ان تطولها.

يحدث كل ذلك وسط الحقل الأخضر اليانع، بينما الفتاة الصغيرة مازالت متمسكة برداء شقيقتها الكبيرة، تراقب المشهد وتقص عليها الحكاية.

اللون البرتقالي والبني لملابس الفتاة ينسجم بهارمونية مذهلة مع لون الحقل الأخضر، فيما ملابس الفتاة الصغيرة بلونها الأزرق، توازن لون السماء الداكن.

تتوزع بعض الحيوانات بعيداً بين ربوع الحقل المترامي الأطراف، فيما تحط فراشة صغيرة على كتف الفتاة وكإنها نداء رمزي ينبئ بقدوم قوس قزح.

مع كل ما تحتويه وتمثله هذه اللوحة التي رسمها ميليه سنة 1856 والموجودة في متحف بيرمنغهام، أراها واحدة من أعظم اللوحات الرمزية التي شاهدتها في حياتي، وهي إضافة إلى لوحة (أوفيليا) تعتبر قمة ما وصل إليه هذا الرسام العبقري الذي وضع مشاعر الناس وعواطفهم على قماشات الرسم، وخبأ لنا بين ثنايا لوحاته، رسائل جمالية مليئة بالرموز والعذوبة، حتى صارت هذه اللوحات مثل قطع موسيقية نادرة أو نصوص عالية المستوى كنصوص مواطنه شكسبير.

يعتبر الفنان جون ميليه (1829 ــ 1896) أحد أهم الفنانين البريطانيين في العصر الفيكتوري، وهو من مؤسسي جماعة ما قبل الروفائيلية. وقد اهتم في بداياته بالمواضيع المقدسة التي رسمها بطريقة نقدية، لكنه لاقى بعض الاعتراضات، ليتخلى عن تلك الموضوعات ويرسم لوحات مستوحاة من الأدب والحكايات التي تتلاءم مع أسلوبه، وقد أحاطَ الكثير من الشخصيات التي رسمها بالمناظر الطبيعية، وبطريقة ساحرة.