اغتيالُ العلامة

ثقافة 2022/02/16
...

 محمد صابر عبيد
تأتي فكرة الاغتيال - بجوهرها الإجراميّ العنيف أساساً - من حجم الخوف الذي يعيشه الفاعل من ضوء وجود الآخر وتأثيره في المشهد، وحين يبلغ هذا الخوف في لحظة ما درجة عالية من تهديد الوجود فإنه يدفع باتجاه عزل الآخر عن موقع التأثير باستخدام الوسائل المعروفة، ومن بينها التصفية الجسدية التي تنهي وجود الآخر وتمحو خطره المتوقع تماماً.
 
 فهو إذن صراع تقليديّ يحدث بسبب الرغبة في الهيمنة على مساحة معيّنة من مساحات الحياة تسهّل للمهيمن تنفيذ رؤيته بحسب ما يريد ويشتهي، على النحو الذي يجنّد كلّ ما يملك من طاقات وقدرات ومواهب لتحقيق هذا الهدف، حتّى لو اضطرّته الظروف والمواقف والحالات لارتكاب أبشع الجرائم لأجل البقاء على رأس الهرم؛ بما ينطوي عليه من مكاسب ومغانم وامتيازات لا يمكن أن يضحّي بها أو يتنازل عن جزء منها مهما حصل.
يتمادى فعل الاغتيال كي ينتقل من اغتيال الجسد الإنسانيّ إلى اغتيال العلامة السيميائيّة الدالّة على الآخر حين لا يكفي الاغتيال الجسديّ ولا يفي بالغرض المطلوب، وعندها يصل فعل الاغتيال إلى درجة تتجاوز تهديد الحياة إلى تهديد الجمال أيضاً؛ لتكون القضيّة أعمق وأعقد وأشمل وأكثر امتداداً في فضاء القهر والتدمير ومحو الهويّة.
يقف رسّام الكاريكاتور الشهير «ناجي العلي» في مقدّمة نجوم هذا الفنّ عربيّاً وعالميّاً على النحو الذي سَلبتْ منه هذه النجوميّةُ حياتَهُ، إذ اغتالته الصهيونيّة في عمليّة غادرة داخل مدينة لندن بتأثير رسومه التي لم يسلم منها سياسيّ عربيّ في ذلك الوقت، وقد ابتكر شخصيّة «حنظلة» التي أصبحت وسيلة تشكيليّة مركزيّة لرسوماته كلّها، وقد علقت صورته في أذهان متابعيه وهو يشبك يديه خلف ظهره وقد أعطى هذا الظهر للرائي وتوجّه إلى «فلسطين»، في مسيرة يسير خلفه فيها أحرار العالم المتنوّرين كلّهم لزمن قد يطول حتّى تحرير فلسطين وعودة أهلها المهجّرين في أصقاع الدنيا بلا مصير.
كيف يمكن تصوّر حجم التأثير البالغ لشخصيّة «حنظلة» على كيان غاصب يمتلك أسلحة دمار شامل وقنابل نووية لكنّه يخاف من شخصيّة ورقيّة متخيّلة! لا شكّ في أنّ هذه المعادلة تنطوي على كثير من الانتباه إلى قيمة الكلمة والصورة في هذا النوع من الصراع المصيريّ، فالتحكّم بالرأي العام وبالشارع وبالمزاج الشعبيّ والجماهيريّ -كما يبدو- هو في يد الكلمة والصورة وليس بيد الأسلحة النووية، بما يحرّض أصحاب الرؤوس النووية على اغتيال الصورة وذبح الكلمة لمحاولة إنقاذ هذا الكيان من مصيره المحتوم، بحيث تمكّنوا من اغتيال «ناجي العلي» غير أنّه يستحيل عليهم اغتيال «حنظلة» اللابث في ضمير كلّ إنسان حرّ شريف في العالم.
كانت وصية «ناجي العلي» وهو يتوقّع نهايته على يد هذا الكيان الغاشم في أيّ لحظة أن يدفن في مخيم «عين الحلوة» الفلسطينيّ جنوب لبنان، لكنّ هذا لم يحصل بفعل عوامل وأجندات كثيرة عطّلت الوصية ومنعت ذلك، إلى أن بادر النحّات اللبناني «شربل فارس» بنحت تمثال لناجي العلي ووضعه في مخيّم عين الحلوة بديلاً لجثّته التي لم يتسنَّ لها أن تُدفن فيه، ولم يمرّ سوى وقت قصير حتّى جاء من يصوّب رصاصه إلى رأس التمثال ويرديه قتيلاً، وهكذا يتمّ اغتيال التمثال في عين الحلوة ضمن عملية اغتيال مناظِرة لاغتيال ناجي العلي في لندن؛ مع اختلاف القاتل واتفاق الرؤية والمنهج والوسيلة والمقصد.
لا شكّ في أنّ اغتيال العلامة «التمثال» يعدّ في المنظور السيميائيّ عملية رمزيّة أكثر بشاعة ربّما من اغتيال الإنسان نفسه، فثمّة معنى عميق التدليل يكمن في جوف عملية اغتيال التمثال على يد عدوّ «مضمَر» يساوي ويضاهي ويعادل عمليّاً العدوّ الظاهر، على الرغم من الفروقات الشاسعة بينهما على صعيد المكان والزمن والهويّة والانتماء ولغة التعبير عن معنى الجريمة، فإذا كان اغتيال ناجي العلي على يد الصهاينة مفهوماً من حيث قوّة تأثير «حنظلة» في الرأي العام العالميّ على صعيد تلقّي الصورة، فكيف يمكن أن نفهم اغتيال التمثال على يد «مجهول!» في مخيم عين الحلوة؟
تندرج العمليّة الأولى في سياق الاغتيال السياسيّ المعروف عالمياً وقد اشتهرت به أجهزة القمع الإسرائيليّة في كلّ مكان في العالم، ولها تجارب كثيرة من هذا النوع صارت مضرب الأمثال في قدرة «الموساد» على تنفيذ جرائم دقيقة بحقّ المناضلين الفلسطينيين الكبار، فبحسب منظّمات فلسطينيّة غير حكوميّة بلغ عدد الاغتيالات هذه أكثر من 430 عملية في القرن الماضي فقط، وكان من بينهم فنّانون وأدباء ومثقفون أثّروا في الوعي العربيّ على نحو أصيل وجوهريّ، والأمثلة على ذلك لا تعدّ ولا تحصى؛ من اغتيال غسان كنفاني ووائل زعيتر وعبد الوهاب الكيالي إلى كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار ثمّ ناجي العلي، وغيرهم كثير من أعلامٍ كبارٍ؛ فلسطينيين وعرب وأحرار من مختلف دول العالم. إنّ اغتيال الكلمة الحرّة والصورة الكاشفة والصوت الجريء لم يكن حكراً على أجهزة العدوّ الصهيونيّ في ملاحقة أعدائه من أحرار العالم، بل تفنّنت أجهزة كثيرة من أجهزة دول العالم وعلى رأسها بعض الدول العربيّة في ملاحقة «العلامة» والسعي إلى اغتيالها بعد اغتيال منتجيها من الفنانين والأدباء والمفكرين والمثقفين، إذ ما زال اغتيال «التمثال» هو السائد عربياً بصيغ مختلفة تسهم في الحطّ من قيمة الفنّان والأديب والمثقف