الروائي التركي أورهان كمال.. الضياء يأتي من بعيد

ثقافة 2022/02/18
...

  ترجمة: علي ماجد
بعد الاحتلال الفرنسي، وبالتحديد عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، غادر أورهان كمال أضنة مع والده عبد القادر كمالي، الذي كان محامياً ورجلا سياسياً مشهوراً آنذاك. والدته هي عظيم هانم، معلمة ابتدائية. بدأ اورهان العيش مع أسرته أولا في بلدة {نيغدة}، ثم انتقل إلى قونية، بعد أن دخل والده البرلمان كنائب عن مدينة كاستامونو. في عام 1973 وبالتحديد بعد عودته إلى أضنة تزوج أورهان كمال من السيدة نوري التي كانت تعمل معه في معمل صناعة المنسوجات.
 
في الحرب ربما يولد الشاعر، لا أعرف ما الرؤية والمشهد الذي استفز الكاتب حتى يخلق من روحه كاتباً بهذهِ القيمة. عام 1939 في لحظة الخدمة العسكرية المشحونة، في المشقة التي كانت تلاحقه، استطاع أن يكتب أولى قصائده عندما كان في الجيش. 
أثناء خدمته العسكرية، كتب أولى قصائده. لكن سرعان ما حكم عليه بالسجن 5 سنوات لمخالفته المادة 94 من قانون العقوبات. قضى خمس سنوات من عمرهِ متنقلاً بين "قيصري، وأضنة وبورصة.  لم يدرك إطلاقاً بأن هذهِ القصائد ستعجل برحيله إلى السجن. هنا تبدأ القصة التي حولته من شاعر مغمور إلى أهم وأعظم الكتاب في تركيا. لم يكن يدرك بأن السجن هو البرهان الذي سيفتح له الحياة على مصراعيها.
في السجن تمكن من أن يعثر على نفسه، أن يرى ما لا يراه الآخر. استطاع أن يقتل نفسه كشاعر وأن يحييها من جديد، ككاتب وروائي يضاهي أهم الرواد الذي كانوا يكتبون في تلك اللحظات. هذا يأتي من لحظة صداقته بناظم حكمت هذا الشاعر الأشهر الذي كان مسجوناً ايضاً في السجن نفسه الذي نقل اليه اورهان كمال. في اللحظة التي عثر بها على ناظم حكمت استطاع اورهان كمال أن يذهب بعيداً بنفسه ملوحاً بكل القصائد التي سجن على إثرها من دون أن يشعر بالندمِ على سجنه، كان مديناً له حد مماته. يقول نجله في إحدى المقابلات "إن أبي هو كاتب" الشعب، نعم، أقول هذا وأنا كلي فخر.. لقد كان أبي يحفر في الفقر حد مماته ليبعث الأمل إلى الآخرين. هناك أمل كبير مختبئ في داخله. يجب أن لا تفقدوا هذا الأمل. في الأمل تكمنُ روح الكاتب، فلماذا نفقده؟ من لم يقابل أبي أبداً، فليقرأ كلماته فقط. إن أعماله دائماً في الأرض ليست في الأرض كما يفهم البعض، إنما في أرض الإنسان الذي أكلت غربة الفقر والجوع".
لحظة وفاة أورهان كمال يأتي الرثاء مشدوداً مرتبكاً، مغلفاً بأنين الأيام التي لا ترحمُ أحداً في المحبة يعثر العاشق ويرثي أخي يناجي الدنيا به. يكتب كمال طاهر رثاءه محملاً بالأسئلة التي أكلته لحظة سماعة للخبرِ. "كيف للدنيا أن تأخذ هذا الرجل الذي كان يكتب بلغة عجيبة، لغة بيضاء عارية مستفزة لكل من يمجدُ ويحملُ "راية السلطة على كتفيه".
"كيف لهم أن يتجاهلوا لوعة الإنسان التائه في زمانه. لم يعد مثقفو المجتمع يتساءلون عن حقائقهم الخاصة عندما يفقدون أملهم في العيش. إنهم يحاولون استبدال حتى حقائقهم بأخرى كي يخرجوا من عمق الزجاج الذي دمر وجوههم. أصبحوا يتأملون في المعجزات -فقط لإيجاد طريقة للخروج من المستنقعات المدمرة التي تمت تجربتها مئة مرة. إنهم يأملون ذلك فقط لكونهم عاجزين. ليتنا نستطيع أن نتأمل، أن نحلم ونصبر كما كان يفعلُ اورهان كمال". 
هذا هو مصدر الرثاء المستقطع الذي فجرنا به كمال طاهر عقب رحيل أورهان كمال. كان يصف آهات الفقر. إنه السمة العظيمة. لقد كان أعظم معلم في رسم شخصية الشخص باستخدام سطر واحد. كان من الصعب لأي كاتب أن يجعل الأبطال في قصصه تتحدث بهكذا لغة متجردة، خالية من كبرياء الدنيا التي أخذت منا الكثير. 
من جهة أخرى يذكر الكاتب عدنان أوزيلتشنر "أن أورهان كمال كان كاتباً اشتراكياً واقعياً حتى في مفهومه للفكاهة السوداء. إن الأيام التي قضاها ليست أياماً بعيدة عن مجتمعه، إنما عاش كأحد فقراء المجتمع، وأحد المضطهدين، المحتقرين طوال حياته. لم يفقد إحساسه طيلة حياته. كان يدرك من حوله. يؤمن بالمستقبل، حتى في مواجهة الحقائق الأكثر صرامة. في النهاية استطاع أن يترك أبواب الوحشة مفتوحة للضوء بعيداً عن الظلمة التي كانت تغلفه".
نظرًا لكونه واقعيًا اجتماعيًا أثناء نظرة إلى الحياة الاجتماعية واختيار عناصرها. كان واقعيًا ملاحظًا وناقداً جيداً للحياة يرسم الواقع من لحظة هجرانه وضياعه. استطاع أن يرسم ويعبر عن الحياة بشكلها الواقعي بعيداً عن سمة التغليف والتلميع التي كان يسعى الآخرون خلفها ليظللوا إطار العلاقات بين الفرد والمجتمع. استطاع أن يروي حياة العمال والعاطلين عن العمل والفقراء الذين يناضلون من أجل الخبز، بدءا من رواد الميادين إلى عمال المصانع.
لم يكن بخيلاً في الأدب. كتب الكثير من الأعمال المهمة التي كانت تتصدر المجلات الأدبية. كتب في الشعر والرواية والقصة وحتى المسرحيات والسيناريوهات. بحوزة الكاتب ما يقرب من سبعة وعشرين رواية، واثنتي عشر قصة، وخمس مسرحيات، والكثير من القصائد المنشورة في مجلات أخرى. لديه عشرة سيناريوهات، تم تصوير تسعة منها فقط، حتى في القصص السينمائية فلديه ثلاث قصص سينمائية. قام المخرج والسيناريست عاطف يلماز بتكييف أعمال الكاتب منها "الجريمة " عام 1960، و "أفاري مصطفى" عام 1961، و "طائر الدولة" عام 1980. تمكن من إخراج وعرض أهم عمل ربما للكاتب وهو "اثنان وسبعون وارد" في قالب سينمائي ضخم عام 2011.
استطاع اورهان كمال أن يترك لنا إرثا أدبياً كبيراً، ففي القصة "العاطفة، بنفسجي، حرب الخبز، السكارى، اثنان وسبعون واردا، ابنة واشرمان، الضرب، الشارع الخلفي، حصة الأخ، برج بابل، توجد حرب في العالم، حرب الضواحي، عاطل عن العمل، الخبر أولاً، صغير وكبير، وغير ذلك". 
أما في الرواية: "بيت أبي، سنوات الخمول، مرتضى، جميلة، على بركات الأرض، الجريمة، طائر الدولة، الحادثة، أرض العالم، ابنة الكافر، الصغير، يد البنت، سيدة المزرعة، الغشاش".