الكتاب والبيانو

ثقافة 2022/02/19
...

نزار عبد الستار
حين نشرت إحدى صحف المعارضة في الدولة العثمانية خبراً استهزائياً عن وجود بيانو في قصر دولمة باهجة، وأن السلطان يتلقى دروساً في العزف عليه كفت كل صحف أوروبا عن اتهام السلطان عبد الحميد الثاني بالتخلف الثقافي، وأخذت تصفه بالسفّاح الدموي.
كان الكتاب ومعه البيانو من أكثر الرموز فخامة بعد عصر النهضة، ولأن الحدائق كانت متلازمة ملكية في البلدان الأوروبية، ودليل تحضر، وتمدن، فكل النساء الارستقراطيات في القرنين الثامن والتاسع عشر كن يحملن الكتاب، ويقرأن في نهارات الصيف المنعشة. 
التحريض على القراءة بدأ في العراق بالقرن الواحد والعشرين وهو تحريض مظهري يشبه حقن البوتكس والفيلر ذلك لأن القراءة ليست تصفح ماتقدر على فهمه، وإنما هي تربية عقلية وجمالية تنشأ من الحاجة لتوسيع المدارك، والاستعداد للتفاعل مع الحياة.
عندما أخذت ألمانيا تدخل مجالات تصنيع الأسلحة الحديثة في القرن التاسع عشر تحرك المستشار فون بسمارك لتثقيف الشعب والحد من الأثر الكاثوليكي في الأمة الألمانية، وعرف هذا التوجه بالحرب الثقافية. والشيء نفسه فعلته أميركا بعد جورج واشنطن، وأقدمت الصين على هذا لكن بهدف مغاير وهو صنع سلالة جديدة.
إن وجود الكتاب على الطاولة وبجواره فنجان القهوة صورة تتداول بكثرة في الانستا والفيس بوك وهذه قضية استعراضية في المقام الأول وحتى مهرجانات القراءة التي تحدث في مدن عراقية عدة ماهي إلا فتشية جديدة تسعى فيها المراهقات إلى الإغواء المحتشم.
في كل تجارب الشعوب كانت القراءة حكرا على الطبقة الكلاس وكان لا بد من تقليل نفقة الطباعة من أجل إشاعة القراءة بين الفقراء. الحاجة إلى القراءة ظهرت في العالم مع التقدم الصناعي وانتشار الاختراعات فكان على الشعوب أن تغير تفكيرها وتطور قدراتها العقلية.
مهرجانات القراءة، واستنساخ شارع المتنبي وكثرة معارض الكتاب لاتثقف أحداً بل على العكس محض مظاهر وأوكار جديدة للجهل والتخلف لأن لا غاية هنا سوى التظاهر والوقوع بالوهم، كما أن هذه الظاهرة لا تنتج سوى المزيد من الكتب التافهة والمجلدات الفارغة. 
لا يمكن لشارع المتنبي مهما كانت الإضاءة شديدة فيه والعمران السياحي باديا عليه أن يثقف الأجيال الجديدة، أو يوصلها إلى التفتح العقلي المطلوب. إن الثقافة بشكلها العام والقراءة بشكلها الشغوف لا تبدأ إلا من إصلاح التعليم وتنظيف العقول أكاديميا وتربويا وإشاعة الثراء الفكري والأدبي. ولأن العراق لا هدف له الآن سوى ارتفاع أسعار النفط، فلا حاجة له إلى ثقافة حقيقية وقراءة مجدية.