ماركيز أسطورياً

ثقافة 2022/02/19
...

  كمال عبد الرحمن
 
هل طرأ في بال أحد أنَّ «مئة عامٍ من العزلة» خرجتْ من معطف أسطورة «أوديب»، كم مرَّة قرأنا هذه الرواية الماركيزيَّة الخالدة، وهل مرَّ في خلدنا ثمة تعالقٌ نصيٌّ قد يصلُ إلى حد التماهي بين هذه الأسطورة والرواية، والحقيقة أنَّ هذه الرواية قبل كل شيء تفند ما تبناه الشكلانيون الروس والبنيويون والتفكيكيون على حدٍ سواء، حينما تثبت أنَّ المُغني هو أصل الأغنية، وليست الأغنية هي كل شيء، والرواية هي تأكيدٌ لقول لوسيان كولدمان «كل بنية نسقيَّة أصلها بنية سياقيَّة»؛ أي أنَّ (الداخل النصي) لا يبنى بدون (الخارج النصي)، وهنا انعكست شخصيَّة ماركيز على روايته «مئة عام من العزلة» انعكاساً حاداً، أدى الى تعالق الرواية نصياً مع أسطورة أوديب.
في العقد الثاني من عمره اطلَّعَ ماركيز على أسطورة «أوديب»، وشأنه شأن العديد من الأدباء في العالم تأثر بها وبغرائبيتها، فقال: (هذا هو النمط من الأشياء التي أريد كتابتها)، والحقيقة أنَّه تعلق بتلك المسرحيَّة إلى حد قيل فيه إنَّه «كاد يحفظها عن ظهر قلب» وأكثر ما كان يشغله هو عمق المأساة في اكتشاف أوديب لخيانته المزدوجة، حينما قتل أباه لايوس، وتزوج بأمه جوكاستا، ومن ثم إنجاب ذريَّة هجينة غرائبيَّة تجمع بين (البنوّة) و(الأخوّة) وتستمر بقية المسرحيَّة المأساويَّة التي يعرفها الجميع.
كان ماركيز يفكر كثيراً ويتأمل في مسألة ما يسمى بـ»عقدة أوديب»، وأعجبته فكرة الكتابة عن السفاحين القادمين من زنا المحارم، وحينما جاءت «مئة عام من العزلة»، فقد طرحت هذه الفكرة بوضوح، بحيث طغت على السطح و»طفحت على أحداثها بعلاقات السفاح والمحارم، وتداخل الأنساب، والشبق المبهم، الذي لا يعرف حدوداً للارتواء»، فلم يغب عن ماركيز أمر سفاح القربى، وما يتأذى عنه من اختلاط في الأنساب، والمتع المحرمة، وكشف جيرالد مارتن في كتابه المميز عن ماركيز أنَّ أسرته رتعت في الزواجات غير الشرعيَّة، ومنها سفاح المحارم، ولعلها غير مستهجنة في ثقافات الكاريبي، ففي كولوميبا تطلق صفة (الأبناء الطبيعيين على الأبناء غير الشرعيين)، فلا عجب أنْ راح في روايته (يتلمس طريق العودة الى متاهات النسب السري والغامض) ففيها حيث تتداخل الأسماء والأجيال أعاد (إنتاج الارتباك والقلق اللذين مرَّ بهما عندما حاول وهو طفل، أنْ يفهم الشبكات التاريخيَّة المعقدة، لإرث أسرته) وهذا (الخليط الفوضوي من العرق، والطبقة الذي ينطوي على أساليب كثيرة لظهور اللاشرعيَّة، هو العالم الذي سينشأ فيه الطفل الرضيع، غارسيا ماركيز، ويشاطره تعقيداته، ونفاقه).
يقول الناقد عبد الله إبراهيم «يصحُّ عندي القول، بأنَّ (مئة عام من العزلة)، أمثولة للأفعال العجيبة، والتلاعب بالمصائر، وفيها خلطٌ غريبٌ من نوعه بين التخيلات والوقائع، وقد اتخذ طابعاً سرابياً دمغ الرواية ببصمته، فاقترن أسلوب ماركيز به، وفي الرواية استعادة لأساطير سفاح القربى، حيث تقود الشهوة الى الأفعال الآثمة، والعمى الى الأعمال الشنيعة، فتتضافر سويَّة، وتعمل على انحلال سلالة بكاملها، قاومت الدهر قرناً من الزمان» وهذا نوعٌ من الإسقاط النفسي الذي ترشح من أسطورة أوديب على نفسيَّة ماركيز، فصارت «عقدة أوديب» عقدة في حياته استطاع تفريغ شيء من هذه العقدة في مئة عامٍ من العزلة، ولم يفكر ماركيز بنتائج وإثم سفاح القربى، بقدر ما كانت تشكل لديه الحالة جزءاً من حلمٍ يجب تحقيقه مهما كانت النتائج؛ ذلك أنَّ (موضوعة الرواية المركزيَّة هي سفاح القربى) كما يقول عادل العامل.
وبما أنَّ كل ممنوع مرغوب، ومن حيث يقع التحذير من ارتكاب الإثم، تتضاعف الرغبة في اقترافه، وذلك خرقٌ للمحذور، وثلمٌ للاحتراس، كما وقع في أسطورة أوديب، التي تعلق بها ماركيز، في بداية حياته الكتابيَّة، وتأثر بها تأثراً شديداً، ودمغته بدمغتها، وظهر التخويف الأسري في الرواية من ذلك الإثم، والابتعاد عن ارتكاب تلك الخطيئة، بين أفراد الأسرة وسلالتها، ولم تنجح المحاولات في دفع هذه الخطيئة خارج البيت والأبناء، بل كان الأمر على العكس حيث الاندفاع إليها كان يجري بكل وضوح.
لذلك فسَّرَ العديد من النقاد رواية ماركيز على أنها نهاية العالم، أو أنها خرافة من خرافات الأساطير الإغريقيَّة أو أية أساطير عرفها الناس من خلال الموروث الشعبي أو ما جاءت به بطون الكتب القديمة من حكايات غريبة ومريبة أخذت الكثير من مساحة مخيلة القارئ وعصفت به في دهاليز مقفرة ومظلمة من العجائب والغرائب، ولا شك أنَّ «مئة عام من العزلة هي حدثٌ سرديٌ غير طبيعي في عالم الرواية، فواقعيتها السحريَّة غطتْ على كل محاولات الآخرين في السرد الروائي، رواية نصفها واقع ونصفها خيال، أحداث عجيبة، تتعالق ببعضها، ثم تفترق، وتتعارض على مدى قرنٍ من الزمان، لكنَّ الكاتب الكولومبي كان يضع في باله «عقدة أوديب» ولا يتجاوزها وهو يؤسسُ لرواية فريدة من نوعها هي مئة «عام من العزلة».
لقد رأى ماركيز في وعيه أنَّ «أوديب ملكاً» هي النموذج الأرقى للكتابة، وينبغي الاقتداء بها، لذلك يقول أحد النقاد» والحال، فيجوز اعتبار رواية ماركيز هذه، معارضة سرديَّة لتراجيديا سوفو كليس في الرغبة الدفينة، في سفاح المحارم، وصراع الأجيال، والنبوءات الغامضة، وفناء السلالة، والانقياد الى تدمير الذات، فقد غاصَ الخلف، كما فعل السلف، في مشكلة المصير الإنساني الذي يشوبه الغموض، ويغيب عنه الوضوح، وحذا حذو سوفو كليس، في بيان أثر الأقدار الغاشمة، في رسم مآل الإنسان».
وكما حذر «تريسياس» أسرة أوديب وسلالتها بالفناء، بسبب الإثم الذي ارتكبه أوديب، كذلك فعل المتنبئ الغجري «ميلكاديس» وحذر أسرة سلالة بوينديا بالدمار والفناء أيضاً، لأنَّها سلالة آثمة، وهذا التعالق النصي، يثبتُ التصاق ماركيز نفسياً واجتماعياً، التصاقاً حميمياً بـ»عقدة أوديب»، ويمكن توضيح هذا التعالق على النحو الآتي:
سلالة أوديب: قتل الملك (الأب)/ زواج آثم من الأم/ تحذير المتنبئ «تريسياس»/ فناء سلالة أوديب، بعد أنْ سمل أوديب عينيه وترك طيبة وهو كفيف.
سلالة بوينديا: زواج الإثم/ تحذير المتنبئ الغجري «ميلكاديس»/ فناء سلالة بوينديا بريحٍ عاتية تدمر القرية عن بكرة أبيها، بعد ظهور علامة وهي يلد آخر فرد من أفراد أسرة بوينديا طفلاً بذنب أو ذيل خنزير.
هذا كله يؤكد اهتمام ماركيز بأسطورة أوديب، وتعلقه الشديد بجميع تفاصيل المسرحية، إلى حد كاد أنْ يحفظ هذه المسرحيَّة عن ظهر قلب لكثرة إعجابه بها وتأثره بغرائبيَّة أحداثها وبخاصَّة ما يتعلق بسفاحي القربى، هذا الجزء من المسرحيَّة الذي بنى عليه أهم جوانب روايته، رغم ما تمتلكه الرواية من مميزات وتقانات وعناصر سردٍ مبتكرة، جعلتها واحدة من أهم الروايات في عصرنا الحاضر.