ائتلاف المسرح

ثقافة 2022/02/21
...

 أ.د. باسم الأعسم
 
يمثل المسرح، أو الخطاب المسرحي 
- بالمعنى العام - ذلك الإئتلاف الحضاري (الثقافي والفني والفكري) الذي يشتمل على الظواهر الإنسانية، والفرق والاتجاهات المسرحية والنظريات الدرامية، إلى جانب الشخصيات المبدعة التي هدفها الرئيس، فعل الخير، وإشاعة الحقيقة، وصناعة الجمال، بقصد بناء الإنسان، والمساهمة في إعمار الأوطان من خلال المسرح، بوصفه صرحاً معرفياً وحضارياً يضم عقول حجاجية واعية تختلف في الوسائل والمقاربات، كالمؤلف، والمخرج، والممثل، والدراما تورج، والمصمم، لكنها تتفق في الغايات الإنسانية والجمالية على مر التاريخ، ما دام الإنسان هدف الفن، والحرية أداة الفنان في التعبير عن ذلك الهدف الجليل منذ كلاسيكيات المسرح وحتى حداثاته.
ولتحقيق ذلك الهدف السامي والجميل، تشاد المسارح في فضاءات المدن لإشاعة الثقافة والفكر والمتعة والفن المهذب، ومن ثم تمتين عرى الاتصال بين المسرح والجمهور العريض المتنوع، الذي يشكل قاعدة الفنان الواسعة والناشطة، وهذا ما يثير حفيظة قوى الظلام والتخلف والتطرف، فتبتكر الذرائع لمعاداة المسرح ورجالاته، لكنها طالما منيت بالهزيمة قبالة وعي المسرحيين، وصلابتهم، ودفاعهم المستميت عن قداسة المسرح، فيخوضون غمار التصدي بفنهم الملتزم، ومنطقهم المهذب ووحدة كلمتهم، فلا يهزمون، كما حدث في تلك الوقفة الصلبة والجريئة لفناني المسرح، والتي عبرت عن صدق نواياهم، وقوة ائتلافهم، وجرأة طروحاتهم، فأبطلوا الدعوة التي استهدفت هدم مسرح الرشيد، أضخم مسارح الشرق الأوسط، لا لشيء إلا لكونه مدرسة ثقافية وأدبية وفنية تنتج الجمال والفكر والبهجة، متخذة من ائتلاف المسرحيين بوساطة حواراتهم الشائقة، وجدالهم البناء، ركيزة صلبة في الشروع باتجاه ارساء منظومة قيميَّة تصلح ما فسد، وتحرك ما ركد، منذ البدء والى الأبد.
والمسرح فن مؤتلف من الداخل والخارج، إذ تأتلف الفنون والآداب في نسيج خطاب العرض المسرحي، ويتآزر المبدعون لتقديم زاد ثقافي يسر الجمهور، وينمي مدركاته، فتتصاهر الذوات المبدعة، وتتحدد ملامح الهوية الوطنية ذات الجوهر الإنساني النبيل، لذلك، على الدولة أن ترعى المسرح 
- خاصة - لاقترانه بمصير الإنسان، وحاجة المجتمع.
وإذا لم تكن الثقافة والفنون التي يتصدرها المسرح، جزءاً من دستور البلاد، وتنظم بقوانين وقرارات تعظم شأن الثقافة والمثقفين، وتجل الفن والفنانين، فلا يستقيم الخطاب الإعلامي والفكري، فنحن لم نحيا وسط عزلة موحشة، بل في قلب العالم الذي أضحى بفضل (السوشيال ميديا) قرية صغيرة، وأصبح المسرح من أبرز قنوات الفكر والإعلام والسياسة، فهو أبو الفنون وجبهة إعلامية خطيرة، إذا ما أحسن استخدامه؟!
وطالما كان للمسرح العراقي القدح المعلى في مواكبة الأحداث، ورصد الأزمات، ونقد السلبيات، إذ حاز على موقع الصدارة في الدفاع عن الحريات، والحقوق الإنسانية المشروعة، ومن ثم مؤازرة التوجه الديمقراطي والوطني، ومجابهة الحروب والحصارات، والفساد، انتصاراً لقيم الحق والعدالة والجمال، لكن رياح التغيير قد سارت على غير ما تشتهي سفن الثقافة والفن، إذ اربكت الطائفية والتطرف والعنف كل المسارات السليمة المؤدية إلى شواطئ المحبة والتسامح والفن والأمان.
ولعمق جذوره الغائرة في حيثيات الواقع، وشساعة مساحته وقوة تأثيره، فإن ائتلاف المسرح يُعد من أشد الجبهات تأثيراً على المجتمع، بحكم اتصاله المباشر بالجمهور، وتعبيره عن تطلعاته، وسحره المبين، مع إدراكنا الأكيد لفاعلية الخطاب المسرحي التنويري، بما يحتويه من فكر ومتعة وجمال، تشكل عناصر الجذب الجماهيري الكبير، وإلا بماذا نفسر استمرار تقديم العروض المسرحية ضمن نظام الربرتوار المسرحي في العالم أجمع، وعلى طول أشهر السنة؟! أو استمرار عرض مسرحي لأشهر وسنوات؟!
ومجيء الجمهور لمشاهدة العروض المسرحية على الرغم من قساوة الطقس؟! وبماذا نعلل استحداث معاهد وكليات تدرس المسرح والدراما؟! 
ألم تدلل تلك الوقائع والمعطيات على ضرورة المسرح وجدواه وتأثيره البالغ في المحيط الاجتماعي والتربوي والسياسي؟!
فضلاً عن ذلك، أن المسرح يمثل نافذة فارهة يطل من خلالها المسرحيون لإعلاء شأن الحرية، وحقوق الإنسان، ونقد معرقلات السلم المجتمعي، ومن ثم التمرد على لا معقولية الوضع الإنساني بوساطة الفكر والفعل الثقافي والفني الذي يصدم الآخر بقوة حجته، ورجاحته، ما دام يخاطب العقول، ويهذب النفوس، عندما يصحح التوجهات الخاطئة ويقومها إنسانياً واجتماعياً وتربوياً، وتلك هي أبرز الأهداف السامية للمسرح الجاد والملتزم، بوصفه جبهة ثقافية وإعلامية وتربوية، تؤازر الجبهات الفكرية والمعرفية بقصد الارتقاء بوعي الناس، والمساهمة في توجيه الرأي العام، لإرساء أسس التنمية الثقافية، فإن ائتلاف المسرح يؤدي إلى الائتلاف المجتمعي الرصين. 
لذلك، أن تزايد المؤسسات الفكرية، والبنى الثقافية والإعلامية ومنها: المسارح، يعد ظاهرة حضارية إيجابية، تعكس ثقافة النظم السياسية ورقيها، مثلما هي الحال في العالم المتقدم، إذ لا تخلو مدينة من صروح ثقافية أنيقة وشاهقة تعنى بالمسرح والموسيقى والسينما، بعدها مغذيات العقل الإنساني، كما الحال في مصر وفرنسا وبريطانيا وأميركا وبلجيكيا التي يوجد فيها (97) مسرحاً، ولم يكن (تشرشل) بطراً أو مرائياً عندما خير بين المستعمرات البريطانية ومؤلفات شكسبير قال: نضحي بالمستعمرات البريطانية ولا نضحي بمؤلفات شكسبير.
بالنظر لأهمية ما يطرح من أفكارٍ تنويرية في النصوص المسرحية، فقد اكتسبت خشبة المسرح قداستها من خلال تعبيرها عن مصائر الناس وتطلعاتهم، وإشكاليات الواقع، بغض النظر عن عقائد الناس وجنسياتهم وانتماءاتهم، فالمسرح ملك الإنسانية، ومشاع للناس أجمعين، ولعل من أخص سماته مجابهة التطرف والتخلف والعنف والإرهاب بـأشكاله كافة، وهذا امتياز يحسب لصالح ائتلاف المسرح، الذي ينبغي أن يُحصن ويُرصن لكي يَبقى منبراً للإصلاح والتغيير، مع يقيننا أن المسارح كالمساجد لا يعمرها إلا من آمن بالله.