حديث الروح.. بين الشيخ والمريد

ثقافة 2022/02/21
...

 لؤي حمزة عبّاس
يقترح كتاب (حديث الروح) الصادر عن مكتبة النهضة العربية، بغداد 2021، سبيلاً خاصاً للتعبير عن الصلة العميقة بين مؤلفه الدكتور قحطان الفرج الله وأستاذه المفكر الدكتور سليمان العطار، تكون الحكمة فيه مناراً وهادياً، فالصلة التي تتخذ من الحكمة أساساً للعلاقات الإنسانية، آصرة لا تقطعها الأزمان ولا يسكت حديثها غياب أحد طرفيها.
فهي مرتبطة بالروح مستهدية بحكمتها، بما يجدّد الارتباط بين الشيخ والمريد ويجعل منهما، في لحظة إنصات عميق إلى جوهر التجربة الإنسانية، كلاً واحداً يستمد كل منهما من الآخر طاقته وفاعليته، 
إذ إن من أولى الخلاصات الرفيعة التي يقدمها الكتاب هي قدرة المعرفة على التجدد والاستمرار، فالموت الذي غيّب الدكتور العطار لم يمنع حضوره المعرفي من خلال (365 كلمة) اقتبسها الدكتور قحطان الفرج الله من مجمل تراثه الفكري، مستعيداً بوساطتها صوت المعلم في انتمائه الرفيع لمجمل القضايا الإنسانية، إن «النظر للعطار كإنسان يعطيك انطباعاً جميلاً مغموراً بالحياة، حب العلم والمعرفة، حب الخير والجمال»، كما يقول د.قحطان في مقدمة الكتاب، فالكلمة الأقدر في التعبير عن تجربة د.سليمان العطار، المفكر والإنسان، هي (الحب) أسوةً بشيخه ابن عربي الذي انقطع لدراسة تراثه عقوداً حتى تنبه «إلى فكرة الخيال كمعادل موضوعي للغيب والرؤية»، لينطلق من تصوّر المتصوف لصناعة واقع يمنح الطمأنينة والسلام، إنها مواثيق الأستاذ الذي منح الكثير تأليفاً وترجمةً ليختار أخيراً، وبوعي كامل، دور المعلم الذي تتجدّد صلته بالمعرفة مع كل درس يعيشه، فالدرس، بالنسبة لأستاذ من طبقة الدكتور العطار، هو العيش في أسمى معانيه وأكثرها رفعة، فالمعلم، كما يقول برتراند رسل، «كالفنان، والفيلسوف، والأديب، يستطيع أن ينجز عمله بشكل ملائم إذا شعر بأنه فرد يقوده حافز باطني مبدع، لا تقيّده ولا تسيطر عليه سلطة خارجية»، وليس من تفسير لسعة الحقل المعرفي الذي عمل د.سليمان على حراثته وبذاره، بتعدّد انشغالاته بين الترجمة والدراسة الفكرية والبحث في التراث الصوفي، والإسهام بدراسة الأدب الشعبي، والعناية بالمقامات، والموشحات الأندلسية، فضلاً عن الإبداع الروائي، ليس سوى استجابة للحافز الباطني، بما تعنيه حوافز المعرفة الداخلية من تحقق خارج مجالات التبعية والاستهلاك الفكري، وبعيداً عن تكلّس الروح وجمود العقل، وهو ما يؤكد شعور الاغتراب في نفس المثقف المشغول بجوهر التجربة الإنسانية في تجلياته التاريخية وانتظامه الاجتماعي، إن أغلبنا، يقول د.العطار، «غرباء عن واقعنا التاريخي وفروعه من واقع سياسي وإداري واجتماعي واقتصادي وثقافي»، إنه الشعور بالغربة الذي يمتدّ ويتسع كلما طال انشغال المثقف بقضايا الفكر والمعرفة، ليتوجّه لمعالجة فكرة الثقافة وما تُنتجه من أسئلة تجعل من الضروري مواجهة المثقف وإدراك طبيعة ما يؤديه من دور «بعد أن أثبتت جمهرة المثقفين جهلها بحاجات مجتمعها في أكثر من منعطف تاريخي مرّت به الشعوب العربية»، إن تراجع دور النخبة المثقفة وضعف آليات تواصلها مع مجتمعها، دفع الدكتور العطار للتفكير بطبيعة الثقافة وصلتها بكل من التنمية الروحية والتنوير، وهي الصلة التي تجدّد منظورات المثقف لمجتمعه كما تجدّد ارتباطه بالثقافة بوصفها مفصلاً أساسياً من مفاصل التنمية، فلا تنمية بلا ثقافة ولا ثقافة بلا حب، فـ «التنمية المادية 
لتحقيق الرفاهية الاقتصادية لا تتحقق إذا لم تصاحبها تنمية روحية، ورأسمال التنمية الروحية الحب». 
يرفع الدكتور العطار من منزلة الحب ويُعلي مكانته، فالحب لديه غريزة قبل أن يكون ثقافة، والغريزة تؤكد كونه سلوكاً فطرياً لدى الإنسان، إلا إذا غلب عليه الذكاء وثقفته التجارب الطويلة والممارسات الخلاقة، عندها يُعد الإنسان أكثر إبداعية وتنوعاً، وينتقل من الثبات إلى الفاعلية والتحوّل، ويخرج من أسر التابعية التي يراها د.العطار من عوامل تعطيل الانتاج الإنساني ومعاداته، التبعية «انعدام فرص الإبداع والاختراع والتطور نحو الأفضل على المستوى المادي (التكنولوجي) والروحي (المعرفي)». 
إن تأمل الدكتور العطار يوسع نظره للتابع في صلته بالمتبوع، الملقن، والكبير المملي، ليتخذ صورة الطاغية، كمسلمة نهائية، وما على التابع إلا حفظ وصاياه وتنفيذها حرفياً، لكن مكمن الخطورة في علاقة التابع بالمتبوع هو في تلقي المعرفة بوصفها حقيقة مطلقة، وإذا لم يجد التابع هذا المصدر للمعرفة يعمد إلى «تمثله في أي صنم تاريخي أو معاصر، وإذا عجز عن هذا التمثل يستعين بقوى غيبية لإمداده بالمعرفة»، إن النظر في موضوعة التابعية تمنح الكتاب أهمية في إضاءة مساحته الفكرية، كما في الواقع وعلاقاته وهو يتحول في ذهن التابع إلى «وهم وصور هلامية تتفكك حواشيها وتتلاشى في الفراغ، وهذه الصورة الهلامية يطلق عليها التابع لفظ العلم فهو علم زائف»، ليكون من نتائج التبعية، بوصفها حالة تسليم وجمود، غياب الفاعلية وانتفاء المبادرة اللذان يجعلان التابعين نسخاً لا أشخاصاً، فالتابعون، في النهاية، إما مكررون أو نائمون.
إن كتاب (حديث الروح) يضيء الصلة المعاصرة بين الشيخ والمريد، ويمنح الشيخ مساحة للحضور في غيابه والتعبير عن خلاصات تجاربه الفكرية والحياتية، كما تجسدت في تراث معارفه، وهو تراث يزدهر ويتجدّد بما تقترحه القراءة من صلات وأواصر يقع الحب، الشعور الإنساني الأسمى، في مركزها، «فالقلوب مليئة ببذور الحب الحبيسة المتمردة الحزينة»، انثروها، يوصي الشيخ، في أرض كل القلوب التي خلقها الله لتتعطش للحب، وسوف تنبت حبّاً رائعاً في قلوب الآخرين.