ما الذي قدّمه شعراء ما بعد التغيير للشعريَّة العراقيَّة؟

ثقافة 2022/02/22
...

 البصرة: صفاء ذياب
ما زال التجييل فاعلا في الثقافة العراقية، فالأجيال التي أسست للثقافة العراقية حاضرة حتى اليوم، جيل السيّاب، المؤسس للحداثة الشعرية العربية، الجيل الستيني، الجيل السبعيني والثمانيني والتسعيني، فضلا عن الجماعات الأدبية التي كان لها أثر واضح في مسار الثقافة العراقية، هذه الأجيال قسمت التجارب والحداثات إلى قسمين، قسم فني، وقسم زمني، فعلى الرغم من التأثير الواضح للفني، مثل جماعة كركوك، غير أن الزمني أيضاً بقي حاضراً. 
فالثمانينيون على سبيل المثال رسّخوا لقصيدة النثر وجعلوها النص الأكثر تداولاً في الشعرية العراقية الآن، على الرغم من سلطة القصيدة العمودية التي ارتبطت بالسياسي؛ لا سيّما المؤدلج منه، فبقيت قصيدة منبر وخطاب، إلا أنَّ الأجيال الجديدة، على الرغم من تأثرهم بهذا الخطاب، أنتجوا جيلاً مختلفاً لفهم قصيدة النثر، وهو ما جعلها حاضرة برغم عدم انتهاء التعبوية التي حافظت على القصيدة العمودية، فبرزت تعبويات جديدة، لا سيّما التعبوية الدينية. وهو ما نراه في جيلي ما بعد 2003، الجيل الأول الذي يمثّلون امتداداً للأجيال السابقة، والجيل الجديد الذي جاء بعدهم.. فما الجديد الذي طرحته هذه التجارب؟
 
نتاج أيديولوجي
يرى الدكتور أحمد الزبيدي أنّه ليس جديداً على الشعر العربي أن تؤرّخه (السيوف)؛ فالجاهليون لم يطلقوا على أنفسهم هذه الصفة الذميمة.. وكيف يمكن أن يصف إنسان عاقل نفسه بالجهل وهو أسس قوانين الشعرية العربية حتى غدت حاكمة ومتحكّمة إلى يومنا هذا بل وما بعده؟ فالغالب هو من يصف المغلوب! أليست عصور الأدب العربي عصوراً تبدأ بمنتصر وتنتهي بخاسر؟
وحين جاءت الحداثة الشعرية حاولت أن تنتصر على رواسب القصيدة التقليدية العمودية وسننها الثابتة وقد حقّقت انتصارات شاهدة ومشهودة، ولكن لا أظنها استطاعت أن تحقّق نصراً كلّياً، إذ ما زال النقد ينظر إليها كأنَّها الفرع من ذلك الأصل والمتحرّك من ذلك الثابت المقدس... ومازالت طبول الحرب هي من ترسم خارطة الشعر العربي. وعليه فالمرحلة الجديدة أو التي نسميها (الجيل الثاني) هي من نتاج متغيّرات سياسية وإيديولوجية وليست عن طريق (تحولات معرفية) أو فكرية. ولعل أهمها غياب الهوية المركزية ونمو الهويات الفرعية، إذ أصبح الشاعر يبحث عن المحلّي جداً لينتمي إليه عبر استحضار الإرث التاريخي لهويته الفرعية ليحقق منها هوية منتظمة.
 
تجارب جريئة
الناقد إسماعيل إبراهيم عبد يعبّر عن رؤيته مبيناً أن التراث الشعري الحديث، المتراكم لدينا في العراق، والتحولات العالمية الجديدة حفّزت الكثيرين، شعراءً وكُتّاباً، على الانتقال من نمطية الفعل الثقافي إلى مشروعية رغبة التجاوز والتخطيط والابتكار، وهي الرغبة ذاتها من وضع الشعراء الشباب أمام امتحان المستقبل. لقد اتسمت تجربتهم بعموميات مشتركة لعل أهمها، الإهمال المتعمد فكرياً للأيديولوجيا في الشعر، والانفتاح على التجارب العالمية ومحاولة تدجين بعضها عبر ترصين أركان قصيدة النثر الخالص دونما مرجعيات، ودونما قواميس مقيّدة، وهو ما سيدفع بالشعر الشبابي إلى السباق لاكتشاف تقنيات جديدة في الشعر، يمكن أن نجس بعض ملامحها في التحكّم بالجملة الشعرية، لا المشهد الشعري، ومنها تهذيب اللفظة العامية ودسّها بالمتن الشعري، وبظني أنَّ الميل إلى الخلط بين الأجناس الشعرية والأجناس الأدبية والمعرفية المجاورة- لاسيّما تقنيات النقد- سيؤلفون لغة شاعرية متحدّية للأنماط والاشتراطات، تلك ستبني مستقبلاً لجيل شعري لا يخاف من التجارب المقنعة ولا يتقزم أمام الشعر العالمي.
 
اختلاف الرؤى
ويشير الدكتور علي متعب جاسم، إلى أن الوقت قد يكون مبكراً لرصد ملامح التغيير في النص الذي يكتبه الشعراء الشباب الان لأكثر من سبب، أهمها الوقوف أمام التقسيم «العشري» بعد أن تولّدت قناعات جديدة في تجييل الشعر وليس الشعراء، هذا من جانب ومن جانب آخر علينا أن ندرك أنَّ شعراء ما بعد 2003 وتحديداً من بدأت تجربتهم تظهر في هذه المدة ما زالوا ممتدين في لاحقيهم، ولذا فمن الصعب عزلهم والإشارة إلى خصوصياتهم. ومع هذا المؤشّر أرى أنَّ ثمة فارقاً مهمّاً جداً بين هؤلاء الشباب وسابقيهم “التسعينيين» يكمن في أنهم نتاج مرحلة موت المركزيات الأبوية التي خضع لها سابقوهم- وإن كانوا قد حطّموها ليضعوا بوصلة إبداع حاولت المجاوزة- والأمر هنا يطول تفصيله... لكنّي أشير باختصار شديد إلى أنَّ مرحلة التغيير أنتجت تحوّلاً في طبيعة الرؤية وإن كانت ممكنات نضوجها غير محسومة. هذه الرؤية يمكن تأشيرها في طبيعة العلاقة الناشئة بين الواقع والمخيّل. لقد نفذ أحدهما في الآخر إلى حدٍّ كبير قد يؤثر على بناء النص نفسه إذا لم يدركوا أنَّ هناك فارقاً بين ثقافة النص وثقافة الشاعر وأنَّ هناك واقعاً نعيشه وآخر نفكّر به لنكتبه.
 
انضباط الحرب
ويؤكّد الدكتور عمار المسعودي، أننا نحتاج فعلاً لفحص ما تمَّ إنجازه من شعريات داخل مشهد الشعر، كونه الصفة الأولى التي يسعى كل كاتب أن يتزيا بها. من هذه الكثرة التي تتزاحم تجد أن الشعر نزير مثل أحجار كريمة أو عطور ثمينة على أنف الفقير، ما جعل مهمّة التقصّي والبحث شاقّة.
وينفي المسعودي وجود أي تغيير كبير على مستوى الظاهرة، فما يحصل من انتقالات يمكن مراقبتها من تتبع التجربة الشعرية لمبدع ما وكيف استطاع أن يخلق في حقبة ما تجربة متلائمة ومجموعة المتغيرات الثقافية التي وسمت الحقب الثقافية التي هي ليست لجيل، ولكن لتجربة زمنية ثقافية يشارك الجميع في صناعة تميزها وسماتها. فليس هناك ميزة لما بعد التغيير في الشعرية سوى محاولات غير ناضجة لتكسير تابوات وجرأة لا ترتقي إلى الفعل الجمالي التام.
التغيير يحصل على مستوى الشخصية المبدعة الواحدة وليس على مجموعة واقعين تحت مؤثّرات حقبة زمنية ما. وقد أسوق دليلاً مفاده أن الذي كان تسعينياً تشرّب زمنه الثقافي، فنجده في أجمل لحظات تكسيره لوهم الانضباط وشروط الشعرية المتوارثة. وهذا نابع من التجربة التي مرّ بها جيل كامل استقر على وقع الحروب، وعلى الرغم من الحروب الآن، غير أن التجارب الجديدة لم تستقر بعد.
 
حياة الميديا
من جانبه، يبين الدكتور نصير جابر أنَّ التجارب الشعرية التي ظهرت بعد 2003؛ ولاسيّما التي تحاول وتكتب قصيدة النثر فقط، لأنّ قصيدة العمود لم يطرأ عليها أي تغيير يذكر إذ إنّها لا تزال تحتفظ بتقاليدها المتوارثة على الرغم من ادعاءات بعضهم بالتحديث-، هذه التجارب احتقبت من دون شكّ من مناهل وتجارب سابقة، وإذ أشار غير واحد من النقاد إلى غياب الأيديولوجيا عنها، فهذا قول مبالغ فيه، إذ إنَّ (كشط) الأيديولوجيا من أيِّ نشاط فكري إبداعي لا يتمّ بهذه السرعة والسهولة ويحتاج إلى عقود طويلة.. ومن ثمَّ أنّ هؤلاء الشعراء الشباب تأثّروا بشعراء مؤدلجين... أما الجديد الذي قدّموه فيمكن أن نختصره في أنَّ تجاربهم خضعت لموازنات الإشهار (السوشيال ميديا وافتراضاتها) إذ تمثّلت قصيدتهم العالم المتاح بعلنيته ومواضيعه التي تشكّل بؤرة الأحداث اليومية الراهنة، وهذا ما جعلها قصيدة واضحة ذات لغة يومية بعيدة عن البلاغة التقليدية، تحاول أن تضمن بعض عوالم الدهشة التي تعطي مشروعية للنص وتجعله سائغاً مقبولاً، ومن الممكن أن ينافس في زحام النصوص الكثير.. وهذا لا يعني أنَّها ليست عميقة ولا تمتلك رؤيا إزاء الكون ومشاكله.
صورة مالك مسلماوي
 
تقليديَّة اللغة
ويختتم الشاعر مالك مسلماوي حديثنا، قائلاً إنَّ الحديث عن الشعر الآن هو حديث عن الثقافة الآن. وإذا كان لابدَّ من مقاربة الموضوع نشير بعجالة إلى منطلقات لهذا الحديث، وبدءاً نجد أنَّ كلَّ حدث كبير لابدَّ له من ارتدادات كبيرة على مختلف الاتجاهات ومنها الثقافة والشعر. وما جلبه التغيير (الصدمة) من كوارث إنسانية وفوضى واسعة، كانت هناك فسحة من الحرية مكّنت الناس؛ ولاسيّما الشباب، من الإفصاح عن آرائهم ومواهبهم وميولهم الثقافية.. وقد ركب الشباب مراكب شتّى في رحلة البحث عن الذات وخلاصها، منهم من تاه وسط هذا الخضم والبعض القليل من عبر.
ويضيف: لقد كان لتطوّر تكنولوجيا الاتصال حصول الشعراء أو من اختاروا الشعر هواية أو حرفة على فرصة متاحة وبحرّية تامّة أن يزاولوا أصعب الفنون، ويضعوا تجاربهم أمام جمهور واسع مختلف المستويات والثقافات، ولم يكن بمقدور النقد أن يلاحق هذا الكم الهائل من الشعر أو ما يحسب على أنّه شعر. كما أنَّ النقد لم يكن بأحسن حال من الشعر، فالمشكلة مشتركة، فكما أنَّ هناك شعراً ولا شعر فهناك نقد ولا نقد، تحوّل النقد أحياناً إلى إعلانات دعائية ومدائح مجانية.
وإذا كان من شيء جديد على النص الشعري، فهو إطلاق اللغة من تقليديتها وتقولبها حول المعنى إلى تشكيلات جمالية وأبعاد دلالية تضمر اشتباكها مع الواقع النفسي والاجتماعي.