الأم الأولى ولغة الفن البدئي

ثقافة 2022/02/22
...

 ناجح المعموري 
ما قاله كل من «كريج» و «فيشر» يمثل مفتاحاً لأعماق الحياة، وتعدد مجالات التي أقترحت مثل تلك الاعماق وأعني بها الفنون، لأنه لا يمكن المرور على كل الكائنات البشرية والحديث عن أوميتهم بمعزل عن الفن الذي احتضنه الانسان، وجعله متداولا وجوهر الحياة ومعلما لمزيد الابتكارات، لذا حتى الفن لا يمكن ولا يجوز العناية به، بعيداً عن الإنسان، لأن كل ما سنصل له، سيظل فقيراً وبه عوز ملحوظ، ودائماً ما يفكر باستدعاء الاستكمال الضروري.
أكثر ما يثير العناية هو التجاور والتشارك بين الإنسان الأول والفن. وأعني بالإنسان، المرأة، الأم البدئية، صاحبة الابتكارات التي صاغت عصراً مكتملاً هو ــ البدئي ــ الذي يوحي بعنونته على الرغم من الفقر الظاهر، لكن دراسات تاريخ الفن ، أكدت على أهمية العصر البدئي.
 وعظمة ما انجزه الإنسان الأول واكتشفت دراسات تاريخ الفن غير ما هو مألوف ظاهرياً. وعلى سبيل المثال «إن البدئية الأفريقية، كانت قبل أكثر من مليون ق. م، قد تمَّ الكشف عن كنوز مهمة جداً نشر بعضاً منها في مجلد (كنوز ثقافات العالم) صادر عن هيئة ابو ظبي. 
وتضم إشاراتٍ أعمق لأفريقيا وغناها وكونها أكثر قارة في العالم بتنوع ثري في شعوبها ولغاتها وبيئاتها وتاريخها وتعتبر موطن الجنس البشري، وبداية تطور التكنولوجيا والفن، وبما أن الإنسان القديم بدأ بالانتشار من أفريقيا إلى أسيا وأوربا، فقد احدثت شعوب القارة الافريقية وثقافاتها تأثيراً عميقاً في بقية أنحاء العالم. إن التذكير بالمشاركة الغيبية (الروحانية)، يفضي إلى أن يكون البغاء أيضا معنى تنشيط الخصوبة. ففي معبد عشتار، وعشتروت، وافروديت، وفينوس كانت تعبد القوة المولدة للطبيعة برمتها، ففينوس بنفخة لطيفة منها، تخترق الدم والروح لتمارس عمل الانجاب بقوتها الخفية. وعبر السماوات، وعبر الأراضي، وعبر البحر الأسمى، فتحت طريقاً لم تتوقف عن تلقيحه ببذور الحياة، ومن مغامرها يتعلم العالم ليتوالد.
إنَّ خصوبة الأرض بشرية ومشخصة، والخصوبة البشرية إالهية ولا تتميز عن الخصوبة الكونية، وكلمة أفروديت تعني بطناً واسم عشتار من ذات الكلمة بمعنى رحم والجذر الساقي مقدس وعلى الأخص عبارة تعني الخصوبة، وبصورة خاصة أكثر الرحم «قدس الاقداس» من المرأة، والمعبد الداخلي في الهيكل. 
المشاركة الجنسية هي مشاركة في الخصوبة الكونية. إنها الخصوبة الألهية، فالجنس خبز وخمر المؤمنين بالحب، وفي اليونان تطلق كلمة قديسات على البغايا المقدسات، والعذارى المقدسات، وفي بابل طاهرات وإلهيات. فكن نعتقد بأنهن يجسدن الربة، وظيفتهن كانت مشابهة.. لوظيفة المشاركة القربانية، حيث كانت تسمح للرجل بالحصول على التماس الاختباري مع الألوهة. تميز الإنسان باقتداره على إحداث ما هو غير معروف قبلاً، وتجديد المحيط الذي هو فيه، وأهم ما جعله هكذا هو أنه مكون من عقل ويد، كما قال توما الاكويني.
يقدر علماء الطبيعة عمر الإنسان بملايين السنين، في حين يعزو علماء الآثار نشأة الفن البدائي إلى العصر الحجري الحديث أي منذ 120 ألف سنة ق . م. ولكن يجب أن نفرق بين نشأة الفن الأول والفن البدائي.. فمولد الفن أرتبط بمولد الإنسان نفسه. منذ اللحظة الأولى، ومعنى هذا أننا نتحدث عن نشأته الأول، أما بالنسبة للفن البدائي وجوده نسبي في التاريخ. وقد أتاح الفرصة للكشف عن بعض آثاره في مناطق العالم.
كانت الأم الأولى الكبرى هي الأكثر حضوراً في تحققات الفنان الأول، حيث الضرورة القصوى بوجودها في المعبد لصيرورات الطقوس والممارسات الدينية. ومن هنا نجد بأن المرأة/ الأم/ الحياة/ أكثرهن حضوراً هي الآلهة نانا/ عشتار، موجودة وتتمتع بمركز في المعابد العديدة وفيها كثير من آلهة العراق القديم. لكن المثير للانتباه هو النموذج الفني، الصوري الذي يمثل الآلهة على سبيل المثال، يكرر طبيعته ويودع في معابد عديدة. 
وايضا ــ يرسل لمدن أخرى مجاورة، أو بعيدة فيها معبد للآلهة التي ظلت هي العنصر الحاضر والمقترن بالطبيعة والمكتشف لها، وهي مقترن بقوة مع التقويم الخاص بالطبيعة المتحرك والخاضع لسيرورات تنتجها تحولات الفصول. وهي غير قادرة على الفكاك منه ابدأ. لذا توثقت العلاقة بيد المرأة والطبيعة التي صارت رامزة لها، وحازت المرأة وظائفها المتماثلة مع وظائف الأرض: الخصوبة/ التجدد/ الانبعاث/ الوفرة/ ديمومية الحياة، مع حيوية كل ما يحصل
فيها.
النشاط الجنسي، هو ما اكتشفته الالهة/ الأم ــ بوصفه عالماً لا يمكن فهمه دائماً بالتطبيق على نماذج اجتماعية وهو ما تصر عليه النسوية ــ بوصفها وريثة مدرسة النفعية في القرن العشرين ــ أن تفرضه على النشاط الجنسي. إن اخفاء الجنس أو الايروتيكية، هي مهارة سرية مهيبة لا يمكن تعليمها للغير. إنها هالة الوجدان والخيال حول الجنس، الذي هو صفقة طبيعية وليست اجتماعية، يكون والواقع نوعاً من قبل افراغ طاقة الذكر عن طريق إمتلاء
الأنثى.  لذا فالأخصاء البدني والروحي، هو الخطر الذي يفر منه كل رجل في معاشرة جنسية مع امرأة. والحب هو التعويذة التي يخمد بها الرجل خوفه الجنسي. فالافتراس الكامن في المرأة ليس شذوذاً اجتماعياً، بل تطور وظيفته الأمومية. تلك التي من أجلها أمدتها الطبيعة بأحكام واطباق مرهق. أما بالنسبة للذكر، فكل فعل في المعاشرة الجنسية هو عودة إلى الأم، واستسلام لها. 
اتصال الرمز الذكوري بالأنثوي، استولد رموزاً جديدة لم تكن مألوفة. وبذلك تمكنت الأم الآلهة من تخليق رموز كثر، هي الكائنات التي تعيش معها، وتآخت هذه الشبكة الرمزية، مع رموز المؤنث والمذكر وحققا تفوقاً بحوار ثنائية الرمزين.
إنَّ الرمزي لا ينطوي على وحدة هوية بين المضمون والشكل. وإنما فقط على تقارب بينهما على محض إشارة إلى المدلول الداخلي للشكل، هذا الشكل الذي يبقى خارجياً بالنسبة لمدلولها. وبالنسبة إلى المضمون على حد سواء. ولهذا تمثل الرمزية النمط الرئيس، ليس للفن الذي ظلت مهمته تحويل الموضوعي ــ المحيط الطبيعي ــ إلى محيط فني جميل للروح وبث المدلول العميق للزوجي في هذا
المحيط.
الأم عرفت بالمرحلة البدئية عدداً من الوظائف الجديدة، منها الفالوس الممتد والانتهاكي، وكذلك فالوسها الصغير القوي والمعربد، المرتعش وكأنه يعيش صراعاً رمزياً، وجدلهما الثنائي ترميز إلى علاقات ثنائية بين الجدل وحاجات اجتماعية متنوعة لا يمكن فهمها إلا في نظام ثقافي ملموس. 
الجسد مكون من مجموعة علامات منطوية على تصريح عبر الأجزاء العديدة، التي تفيض في أحيان كثيرة بالرغبة أو الايحاء بها أو التصريح عنها. إنها رموز شهوية. تفضح جسد الأنوثة بأدائها السري/ النداء المحكوم بالتطويق والتكتم
والأخفاء.