لماذا أحرق غوغول روايته الأخيرة؟

ثقافة 2022/02/22
...

 اليكساندرا غوزيفا
 ترجمة: بهاء سلمان
خطط الكاتب الساخر الأكثر شهرة في الأدب الروسي أهم أعماله المعروفة لتتألف من ثلاثة أجزاء، على غرار “الكوميديا الإلهية” لدانتي، مع أجزائها الخاصة: الجحيم، والمطهر والفردوس. جزئها الأول، الذي طبع سنة 1842، معروف لدينا اليوم بـ “النفوس الميّتة”؛ وكان هذا جزء الجحيم، وبدا أنه رائع حقا، حيث يصور غوغول لوحة غنية من شخصيات سيئة ومدى واسع من رذائل متنوعة. 
وبتعليقه على الفصول الأولى المكتوبة من قبل غوغول، والتي لم تتضمّنها النسخة النهائية من المجلّد الاول، كتب الشاعر الكبير اليكسندر بوشكين التالي: “يا لله، كم هي حزينة روسيانا!”
 
رواية متحركة
هنا ملخص لأحداث الرواية: أحد أفراد طبقة النبلاء بسن صغيرة، اسمه «بافل تشيتشيكوف»، يصل إلى بلدة صغيرة بهدف كسب النفوذ داخل المجتمع، متظاهرا كونه من أصحاب الأملاك. مع هذا، تكمن المشكلة في عدم إمتلاكه ولا حتى ل»نفس» واحدة، بمعنى، عدم امتلاكه للعبيد. بالتالي، يقرر اللجوء إلى خدعة سهلتها البيروقراطية الروسية، فكل صاحب أرض داخل روسيا لديه قائمة بأسماء العبيد كان يتمُّ تحديثها كل عدة سنوات؛ وعليه، حينما كان يموت حتى أي عبد، كان صاحب الأرض يدفع الضرائب عليه، وكان يعد من الأحياء إلى حين النسخة القادمة. قام تشيتشيكوف بزيارة أصحاب الأراضي المحليين ليطلب منهم بيعه هذه النفوس الميّتة.. وحصل تباين في ردود الأفعال على هذا الطلب غير التقليدي.
أطلق غوغول نفسه على «النفوس الميّتة» قصيدة، رغم أنها كتبت نثرا، إلا أن صيغة الرواية تعدُّ من بقايا قصيدة قديمة حيث يكون فيها بطل الرواية، تشيتشيكوف، مسافراً بشكل متكرر عبر «دوائر من الجحيم»، مثل اوديسوس المتجوّل من وهم إلى وهم. علاوة على ذلك، تتضمن «القصيدة» استطرادات غنائية مطوّلة حول روسيا والروس. وتعتبر الرواية بمثابة قمة أعمال غوغول، وأحد المداخل الرئيسية لفهم الورح الروسية، فشخصيتها الرئيسية ليست تشيتشيكوف بشكل كبير مثلما كون الأمر يتعلّق بروسيا نفسها.
ضمن خطة غوغول الأصلية، كان الجزء الثاني مقاربا لمطهر دانتي، والثالث، تتابعا، الفردوس. «تتبلور استمراريتها داخل رأسي بشكل أوضح وأكثر فخامة،» هكذا كتب غوغول لصديقه الكاتب «سيرجي اكساكوف». لم تكن الشخصيات في الجزء الثاني بمقدار السوء نفسه، الذي ظهرت عليه شخصيات الجزء الأول. «لماذا نصف الفقر، إذن، نعم الفقر وحالة الخلل في حياتنا، لا لاكتشاف أناس وإخراجهم من مناطق القفر، من الأماكن المنعزلة النائية والزوايا المظلمة للبلد؟» هكذا يبدأ غوغول مجلّده الثاني.
 
بلادٌ فاسدة
لنأخذ على سبيل المثال شخصية اسمها «تينتيتنكوف»، الذي نلتقيه في مستهل المجلّد الثاني: يحيا حياة فارغة ومملة، لكن الكاتب ينوّه إلى أن صار مليئا بالأحلام والطموحات، غير أنها جميعا انهارت، بسبب وضاعة ولا جدوى خدماته. اضافة لذلك، أراد غوغول اكتشاف وإيضاح الطرق الموصلة نحو التطوير. على وجه الخصوص، وبصوت شخصياته، يناقش الكاتب كيفية التخلّص من الفساد: فلأجل العمل بشكل حسن وعدم السرقة، يحتاج كل عامل مدني إلى تشجيع رؤسائه في العمل. وإذا كان المجلّد الأول مليئا بتصوير غوغول للوحل والطرق السيئة، فالمجلّد الثاني يعبر فيه عمليا عن إعجابه بضخامة روسيا ومناظرها الطبيعية.
ويواصل تشيتشيكوف زياراته إلى أصحاب الأراضي لشراء أرواحهم الميّتة، لكن، وفي مرحلة معيّنة، يسرق الصندوق الذي يحوي جميع أوراقه. علاوة على ذلك، يصير واضحا أن أحدهم يعطي معلومات عن تشيتشيكوف ومكائده. لم يعبّر تشيتشيكوف في المجلّد الأول عن أية مشاعر قوية، ليصير هنا يائسا، ويقطع شعر رأسه من القهر. مع ذلك، ينتهي المخطوط هنا، ولن يكون بمقدورنا مطلقا معرفة ما حصل لبطل الرواية.
كان الجزء الثاني من «النفوس الميّتة» بالواقع هو آخر أعمال غوغول قبل وفاته؛ وقد مرت عدة سنوات على نشر الجزء الأول، والكاتب تغيّر، فقد كان يمر خلال ثوران روحاني وحالة قلق. «أنت تسأل إن كانت «النفوس الميّتة» قيد الكتابة. حسنا، الجواب هو نعم ولا، فهي قيد الكتابة، لكن بشكل بطيء للغاية، وليس كما أريد بالمرة،» هكذا كتب غوغول إلى صديقه الشاعر «نيكولاي يازيكوف». عملت معاناة غوغول الذهنية على جعل العمل أكثر صعوبة، فلم يكن بمقدوره الكتابة «كما كنت شابا، وهذا، بشكل عشوائي،» كما يقر غوغول، فكل سطر كان بمثابة تحدٍ.
 
قارئٌ وحيد
الشخص الوحيد الذي قرأ الجزء الثاني من «الأرواح الميّتة» كان الأسقف ماتفي، الذي كان الكاتب يراسله، وجرى بينهما جدالات مطوّلة وساخنة نوعا ما حول مختلف القضايا. وانتقد ماتفي الجزء الثاني للرواية، واصفا إياها بالمؤلمة، ووصل به الأمر حتى الطلب من غوغول اتلافها.
شعر غوغول نفسه بعدم نجاح المجلّد الثاني، معتقدا أنه أفضل في تصوير الشخصيات السيئة واليأس المطلق. ودوّن الكاتب في «مقاطع مختارة من المراسلات مع الأصدقاء» التالي: «سيعمل نشر المجلّد الثاني بالطريقة التي هي عليها على فرض الضرر أكثر من الشيء الجيّد، وابتداع عدة شخصيات جميلة من الذين يكشفون عن كرم الروح لأجيالنا القادمة سيقود نحو التيه، وسيعمل فقط على زهو وتبجح مجوّفين...»
قام غوغول يوم 24 شباط 1852 بحرق ثمرة عمله، وهو المجلّد الثاني للـ «الأرواح الميّتة»، الذي أشرف على الانتهاء منه. وبحسب نظريات مختلفة، أحرق المخطوطة إما خلال نوبة غضب، أو .... بطريق الصدفة. ويزعم أنه أراد اتلاف المسودات فقط، لكن وبالخطأ، رمى كامل النسخة المبيّضة في المدفأة أيضا. ولربما لهذا الأمر، تأثر غوغول بشكل سيئ لما حصل، ومات بعد تسعة أيام.
ما تبقى من فصول المجلّد الثاني التي نجت إلى يومنا هذا هي إعادة هيكلة لكتب الملاحظات الخمسة التي لم تحترق. وهذه الفصول المحددة كانت على الأرجح من نسخ مختلفة كتبها غوغول، فهناك فجوات كبيرة بينها. إضافة لذلك، تتباين من كلا أمرين: المحتوى والنبرة، وحتى الورق والحبر كانا مختلفين. ولا ترسم هذه الصفحات الباقية صورة كاملة، لتبقى نية الكاتب أمرا غير معلوم بالنسبة لنا.
صحيفة رشا بيوند الروسية