السرد الاستعماري

ثقافة 2022/03/01
...

 كمال عبد الرحمن
ما أن حل عام 1930 حتى كان الغرب قد تمكن من احتلال أجزاء كبيرة من الشرق بذريعة (الإعمار)، هذه الذريعة المغلفة بورق سري اسمه (الاستعمار)، وبحجة تحرير الشعوب من ربقة طغاتها، والتبشير بالديموقراطية، وتمدين الشعوب المتخلفة، والخروج بهذه الشعوب من بيئات يتحكم فيها الجهل والتخلف الى مجتمعات متحضرة، ومبررات ومسوغات كاذبة   لم تكن تخفى على عقلية طفل صغير، ومن الطبيعي  أن ترافق هذه الحملة الاستعمارية، حملة أخرى تعضد موقفها وتوطد سياساتها، وهي الحملة الثقافية (الكولونيالية) أو ما سمي بمرحلة (الحداثة).
 
  ومن أهم أهداف هذه الحملة الثقافية (الأدبية)، هي التركيز على أدب (المركز) وإقصاء الهامش، وهذا تأييد واضح لتقديم الاستعمار على أنه هو المنقذ الأوحد للشعوب من ضلالها وضياعها وضعفها وجهلها، وهذا معناه أيضا أن الأدب الكونوليالي (الاستعماري) هو حقيقة مثلما أن استعمار القوي للضعيف
قيقة.
 ومن هنا بدأ السرد الاستعماري يكشر عن أنيابه من خلال تصريحاته بأن الشعوب الضعيفة المستعمرة ليست إلا حشرات تحتاج الى استئصال، ومرضا بحاجة الى تطهير، بدعوى المحافظة على الأمن  وقيام مدنيات راقية، لذلك لا بد من استئصال هذه الحشرات، وهكذا سعى السرد الاستعماري الى محاولة اجراء تغيير في الثوابت الوطنية ويفرض مفاهيمه بدلا منها، كمفهوم (الوطن والمواطنة والوطني)، فمفهوم الوطن يعني مواطنة وعلاقة انتماء وتعلّق، وهذا لا يتفق مع مفهوم المستعمر، وهو ما تثقف له السردية الاستعمارية. 
ولكن هذه “السردية” عند إدوارد سعيد، انطلاقا من قراءته في الآداب التي مهدت للاستعمار الغربي، تتجاوز هذا المعنى البسيط لتصل إلى تركيب عناصر معقدة من الحكي الذي يشكل عالما متخيلا متماسكا، على حد وصف كمال أبو ديب، بحيث ينسج حكاية تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تُمنح طبيعة الحقيقة التاريخية وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين بوصفها حقيقة ثابتة
تاريخيا.
وفي كتابه “الثقافة والإمبريالية” قرأ سعيد سرديات روائية استقرت في الذائقة العامة للغربيين (كما للشرقيين بسبب التمركز الأوروبي الإنجليزي في هذه الحالة) مثل رواية “مانسفيلد بارك” لجين أوستن التي تتحدث عن زواج ثلاث شقيقات، حيث تتزوج الأولى من الثري السير توماس، والثانية من رجل دين، والثالثة من ملازم بحري بترت ساقه وأحيل على المعاش، ورواية”كيم” لروديارد كبلنغ، نشرت سنة 1901، وقوامها مغامرات يتيم إيرلندي يرافق راهبا بوذيا من التبت، في رحلة قام بها الى جبال الهملايا ، بحثا عن “ نهر الشّفاء” المقدس، ورواية”قلب الظلام” لجوزيف
كونراد.
اهتم “جوزيف كونراد”، وهو كاتب إنجليزي من أصول بولونية، بدور الرجل الأبيض في المستعمرات الأفريقية والآسيوية، وهو دور تذرّع بمهمة تمدين “الشعوب البدائية” لكنه بالغ في استغلالها، ونهب ثرواتها، والتحكّم في مقادير حياتها. وطرق هذا الموضوع مرارا في رواياته، لكنه غاص فيه باثنتين من أشهرها؛ غوص البحّار العارف بما قامت به الإدارات الاستعمارية في تلك الأصقاع النائية، وهما “قلب الظلام” و”لورد جيم” بالشخصيتين الرئيستين فيهما: “كورتز” و”جيم”، وجعل من “مارلو” راويا مصاحبا للأحداث
فيهما.
 وإذ انصبّ الاهتمام في الأولى على دور وكيل لتجارة العاج في حوض الكونغو، كان مدار اهتمام الثانية الشعور بالإثم من شبهة إغراق سفينة ضمّت نحوا من ثمانمئة حاجّ قصدوا مكة لأداء مناسكهم الدينية، ما جعل البحّارة البيض المسؤولين عن قيادة السفينة، وعددهم خمسة، بمن فيهم “جيم” يفلتون من العقاب المستحقّ عليهم بتهمة التقصير في
مسؤوليتهم.
إن رواية “قلب الظلام” للكاتب البولندي البريطاني “جوزيف كونراد”، تعد من روايات الحداثة التي يمكن قراءتها على مستويات  متعددة، وقد ناقشت الرواية قضية الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، بما يتبع هذه القضية من تطبيق لفلسفة “نيتشه” التي انتشرت عند نهاية القرن التاسع عشر، ويمكن ببساطة تلخيص غاية هذه الفلسفة في كلمات محدودة وهي “إعادة تقييم القيم” و”تجاوز معايير الخير والشر” وتكمن أهمية رواية “قلب الظلام” في أن كاتبها “جوزيف كونراد”.
قد اعتمد فيها على نمط روائي جديد يعتمد على التنقل بين الرواة والقفزات الزمنية والمكانية المفاجئة في سابقة جعلت هذه الرواية هي الأولى من نوعها على كل المستويات، وصنعت من كاتبها رائداً في نمط وتكنيك أدبي مميز اعتمدته من بعده “فرجينيا وولف” و”لورنس
داريل”. 
وبناءً على هذه المعطيات نجد أنفسنا أمام عمل روائي فريد على الرغم من قصره، فعدد صفحات الرواية في طبعتها الأولى لم يتجاوز المئة صفحة.
يقول فرانز فانون” ولم يكن العنف الاستعماري في شكل إبادات ومجازر فحسب، بل تعداها الى تشويه صورة الآخر الضعيف المستعمر ، فقد جعلته شرا مطلقا، إنه عنصر متلف يدمر كل ما يقاربه، عنصر مخرب يشوه كل ماله صلة بالجمال والأخلاق، إنه مستودع قوى شيطانية، أداة لقوى عمياء، لا وعي لها ولاسبيل الى
إصلاحها”.
أسهم السرد الروائي الغربي في دعم المشروع الاستعماري، المتمثل بهيمنة المركز على دول الأطراف، أو الجغرافيات التابعة، من خلال إنتاج خطاب ثقافي ينطوي على صور وتمثيلات متحيزة لهذا
المشروع.
ولعل خير مثال تطبيقي على السرد الاستعماري رواية “الحاج” للكاتب الأميركي “ليون يوريسا” رواية التمثيل الثقافي للاستعمار، حيث تندمج فيها أشكال السرديات العنصرية والكولونيالية في إطار ما يطلق عليه إدوارد سعيد “الأبستمولوجيا الأخلاقية للإمبريالية” التي صنعت” التاريخ الأبيض” الاستعماري. ولن تتحقق عملية الصنع هذه (بالنسبة لرواية الحاج) دون الاتكاء على المرويات التوراتية والاستعمارية لإنشاء نماذج عنصرية إقصائية تستند الى التراتبية الثقافة الدينية وعلى الترويج المنحاز لمقولة التفوق “الحضاري”
للمستعمِر. 
ومن هنا تبرز أهمية أعمال يوريسا ووصفها بأنها تؤكد قوة تلك المرويات الكبرى، والخلط بين اليهودية والصهيونية في تزوير التاريخ وتشويه الحقائق من خلال تحويل الفلسطينيين - بما يحملون من إرث ثقافي وديني وحضاري- إلى “شعب بلا تاريخ” لتحقيق أغراض سياسيّة تندرج في إطار الصراع العربي الإسرائيلي
القائم.
وقد فصّل إدوارد سعيد ذلك في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، الذي عرّف فيه السرد الإمبراطوري بأنه التخييل السردي الذي تورط في تعزيز الرؤية الإمبريالية للعالم، ولا سيما في سياق الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، الذي كان محكوما بنسق أيديولوجي مضمر في بناء تصوراته عن الآخر، غير الأوروبي، الذي يعيش في الأطراف، على هامش الإمبراطوريتين؛ نسق يجد مرجعيته في استبطان مفاهيم المركزية الغربية، وتصوّراتها بشأن تفوّق ثقافة الغرب، ودونيّة الشعوب الأخرى
وهامشيتها.
ومنذ صدور كتاب سعيد شرع العديد من النقاد والباحثين العرب في تقديم دراسات نقدية تفكك السرد الاستعماري “الكولونيالي”، وتحلل السرد المضاد له، أي السرد ما بعد الكولونيالي، بوصفه ستراتيجية ثقافية مقاومة، وأشار “سعيد” الى أن  القصص والروايات تستخدم لتأكيد الهوية، لذلك  يقول “ ولهذا فإن الأمم الكبرى عبارة عن مرويات استعمارية كبرى، تمارس القوة لمنع قوة وجود سرد أو مرويات متناقضة”.
ومن هنا يعمل “سعيد” على تقويض مقولات المرويات الكبرى عبر أنماط من التحليل، حيث نجد أن السرد قد أصبح أداة للمقاومة والانتماء ووسيلة للتعبير عن الآخر، وتعرية الأيديولوجيات التي تحملها الخطابات الكولونيالية أو ما يعرف بالسرديات
الكبرى.