اسماعيل كاداريه: ندوب التاريخ

ثقافة 2022/03/01
...

 إسكندر حبش (*)
جنرال الجيش الميت" (1962)، "طبول المطر" (1969)، "الحفل" (1988) – وترجمت كلها إلى اللغة العربية – من قرأ هذه الروايات، كما غيرها، يعرف جيدا ميل الكاتب الألباني إسماعيل كاداريه، الذي رافقه في بداياته، إلى كتابة الرواية الطويلة، التي غالبا ما أتت وكأنها بمثابة "فريسك" تاريخي هائل، كانت تقدم ـ في أغلب الأحيان ـ 
 
"عدّة مساحات للقراءة، أقصد أنها تضع أمام القارئ العديد من التأويلات، لكي لا تتوقف عند وجهة نظر واحدة.
من هذه النقطة، نستطيع أن نقول إن هذه الرغبة، أو هذه الطريقة، كانت تسمح للكاتب، زمن الدكتاتورية الألبانية، بأن يكتب، رمزياً، نقدا للدولة البوليسية التي كان يترأسها الزعيم الألباني أنور خوجة. 
لكن بدءا من الفترة التي اختار فيها المنفى، مغادرا بلاده ليأتي ويعيش في فرنسا كلاجئ سياسي منذ العام 1990، وبخاصة بعد سقوط النظام القديم في بلاده، وجدنا أن رواياته بدأت تتحول صوب النصوص القصيرة، لدرجة أن العديد من النقاد أطلقوا عليها اسم "روايات قصيرة" نظرا لما كان معروفا عنه، مثل "طيران المهاجر" (2001)، أو "مناخ من الجنون" (2004)، لكن مع فارق وحيد، وهو أن النقد للنظام القديم الدكتاتوري في ألبانيا كما لرئيسه أنور خوجة لم يعد يقف على حدود الرمزية. 
بل أصبح أكثر شفافية.
بيد أن ذلك كله لم يفقد إسماعيل كاداريه ميزته الكبرى في الكتابة: لم يفقد غناه الرمزي، حتى أنه اليوم ينجح كثيرا في أن يعيد تأويل الأساطير الكبرى تحت سمة الرواية الواقعية المعاصرة. 
  من آخر روايات كاداريه، (الصادرة في ترجمة فرنسية) كتاب "عشاء زائد عن حدّه" (منشورات فايار)؛ لنقل إنه عشاء في ضيافة الحجر، عشاء مع الموت، هو لعبة الأقنعة التي تدفع كلّ من يشارك فيها إلى الاختفاء. 
إننا في مدينة جيروكاستير، الواقعة في جنوب ألبانيا، وهي في الوقت نفسه مسقط رأس الكاتب (ولد فيها العام 1936).
يبدأ كاداريه كتابه بتوطئة يعود فيها إلى العام 1943، إذ وقعت إيطاليا اتفاقية انسحابها من ألبانيا، التي كانت تسيطر عليها منذ العام 1939.
انسحبت بعد دخول الجيش الألماني الذي أتى "لتحريرها من الطغمة الإيطالية الكريهة".
لكن المقاومين، في الجبال، لم يهتموا بهذا الأمر، إذ أكملوا نضالهم وصراعهم مع النازيين مثلما كانوا يفعلون ضد الاحتلال الإيطالي. 
 بيد أن الوضع ازداد اضطرابا وبلبلة، فما بين القوميين والشيوعيين ومناصري النازية، بدت المنطقة كأنها تدخل في سياق آخر من العنف المضطرم.
فأحد وجهاء المدينة، الدكتور غوراميتو، وجد أن الكولونيل فون شواب، الذي كان يدير "المقاطعة الألمانية"، ليس في الواقع إلا زميل دراسته القديم في إحدى الجامعات الألمانية.
بالتأكيد بدا مختلفا مع مرور الزمن، إذ إن الجروح والندوب التي يحملها على وجهه جعلته شخصا مختلفا. 
ما إن التقيا حتى رمى الكولونيل نفسه بين ذراعي صديقه القديم، الدكتور، حيث لم يجد هذا الأخير بداً من دعوته إلى العشاء في 
منزله.
لكن في ذلك اليوم، أطلق المقاومون النار على الجيش الألماني الذي اعتقل، كردّة فعل، مئة شخص من مواطني المدينة.
لكن خلال العشاء، الذي كان عشاء فائضا عن حده، نجح الدكتور غوراميتو في إقناع الكولونيل بإطلاق سراح الأسرى بمن فيهم الصيدلي اليهودي (نهاية التوطئة). 
بعد الحرب، وبعد أن تسلم الشيوعيون الحكم، أخذ الجميع على الدكتور غوراميتو كيفية إقامته العشاء كما أخذوا عليه قضية تحريره للصيدلي. 
في العام 1953، وخلال المحاكمات (بالأحرى عمليات التطهير) الستالينية (محاكمات "أصحاب السترات البيضاء") أتهم غوراميتو بأنه في العام 1943 كان في أصل المؤامرة العالمية التي استهدفت إبادة النظام الاشتراكي.
جاء الاشتباه فيه أقوى من الاشتباه في صديقه الكولونيل فون شواب الذي كان سقط قتيلا (في العام 1943) على الجبهة.
من هنا تساءل الناس كيف يمكن له أن يكون قد استقبل شخصا ميتا عنده. 
تنجح رواية "عشاء زائد عن حده" في أن تحمل إلينا الواقع المرعب لألبانيا تحت حكم النظام الستاليني: التحقيقات الدامية، الإعدامات، إلى مصاف الأسطورة.
من هنا تتحول نبرة كاداريه، وبشكل طبيعي، من القسوة الباردة، العادية، (حين يصف عمليات التعذيب) إلى الشعر الصافي حين يمزج هذه الأقاصيص الحزينة بالأساطير البلقانية القديمة.
كذلك نجد السخرية حاضرة، هذه السخرية الثلجية وبخاصة في توصيفه لميكانيزمات (آليات الدكتاتورية العبثية.
إذا ما ترآى لنا كاداريه، في كتبه الأخيرة، بأنه تخلّى عن الشساعة الروائية التي كانت تميز رواياته الأولى، فإننا نجده هنا قد كسب أمرا آخر: كسب هذا التكثيف الذي لا يخلو من السخرية. ربما في قراءة هذه الرواية، نفهم القليل عن تاريخ هذا البلد المتماوج ما بين إيطاليا وألمانيا والاتحاد السوفياتي (السابق)، إذ إن مصيره كان على المحك، بأن ألبانيا لم تكن يوما سوى مملكة هذه القدرية التي
تحكمها. 
مرة أخرى نكتشف كم أن النقد السياسي عن هذا الكاتب الكبير ليس في النهاية إلا قمة أخرى من قمم الأساطير الألبانية القديمة.
 
(*) كاتب لبناني