نور خضر خان

ثقافة 2022/03/02
...

 طالب عبد العزيز 
 
 هذه رواية كُتبت ببراعة، صاحبها صانع أخيلة من طراز خاص، استطاع في المقدمتين الثانية والأولى للكتاب أنْ يلعب على المخيلة لعبته الروائية، ليوهمنا فيها بأنه ليس أكثر من مكلّف بإعداد الحكاية، التي سمعها من أم زوجة شكران محمد أمين، الراحلة نور خضر خان، في فعل من أفعال الوفاء والتخليد لذكرها لا غير، بحسب ما يرد في مقدمة الطبعة الأولى، وهو إيهام واضح، ذلك لأنَّ الرواية من منشورات دار خطوط وظلال 2022، فيما تحاول دار ميران للطباعة والنشر، وهو إيهام آخر- فلا دار ولا ميران- كشف تفاصيل أكثر عن الحكاية، باعتبار أنَّها تستمدُّ مادتها من كتاب بعنوان دار زمان، وهي استعارة غاية في الأهمية والجمال للـ (البصرة) وأنَّ الاختيار إنَّما وقع على الأستاذ جابر خليفة جابر ليعيد كتابتها، بوصفه مهتماً بما يتعلق بالمدينة ليس إلّا. 
  سعى الروائيون الجدد الى أكثر من طريقة غير تقليدية في الروي مؤخرا، فقد وجدنا في بعض الروايات أنّهم لجؤوا الى (نفي) علاقتهم بما كتبوا، أو أنّ ما جاء في المتن إنَّما كتبه شخصٌ آخر، أو من خلال مراسلات تتم بين كاتب ومترجم، كما في «قواعد العشق الأربعون»، أو عبر العثور على وثيقة مخطوطة، كما عند إيكو وهكذا، وجدنا صاحب (نور خضر خان) جابر خليفة جابر، الذي ذهب الى ما هو أبعد من ذلك، حين اكتفى بأن يكون مُعِدَّاً لا أكثر، إذ تبدأ الرواية برسالة على الواتس آب تتلقاها حفيدة نور خضر خان المسلمة من أمها تُعلمها فيها بزيارة أحد أقربائهم (خاجيك) الأرمني من العراق الى لندن، لنعلم في ما بعد بأنَّ الرواية سيرة غريبة حافلة بالأحداث لاسرة مختلفة الأعراق والأديان والطوائف تسكن البصرة القديمة (نظران) حيث يقترب المسلم الشيعي من المسيحي الأرمني، وفي الفصول اللاحقة تتسع دائرة الأسرة هذه فتشمل طبقات المجتمع البصري.
 استطاع جابر في «نور خضر خان»- روايته الأهم بين أعماله- أن ينبّهنا الى أهمية قراءة تاريخ المدن، ذاك المسكوت عنه، وإذا كان سعدي يوسف يقول بأنَّ المجتمعات العربية لم تستطع انتاج رواية حقيقية بسبب عدم استقرارها، وهي مقولة قابلة للنقاش، فإن البحث الذي قدمه خليفة في جمع مادة الرواية، والتي لا ترد على لسانه أيضا، إنَّما في رسالة الشكر التي كتبتها من لندن نور خضر خان، والتي تتحدث فيها عن الجهد العلمي الذي بذلته طالبة الماجستير ايلين واريس من جامعة يريفان، وجمعها مواد بحثها من مصادر ومراجع في مكتبات اسطنبول، وأرشيف الدولة العثمانية الخاص بالبصرة، ومدوّنات القنصلية البرتغالية، وشركة الهند الشرقية، ووثائق القنصلية البريطانية، ومصادر فارسية في مكتبات شيراز والأهواز وغيرها في رحلة البحث المضنية، التي لا يسعني إلّا أن أقول بأنَّها ممتعة، وتشدُّ القارئ من ياقته لقراءتها.
بقي أن أشير الى أنَّني لم أشعر بالضيق من الجمل شبه العاميّة التي ترد على لسان أبطال الرواية، بل على العكس، فقد كانت ضمن نسيج البناء، الذي أحكم جابر خليفة جابر إقامته، وبما يذكرني ببعض أعمال الكبير فؤاد التكرلي. لن أخوض في أحداث الرواية، فهي فرصة متاحة للقارئ، الذي سيجد في العمل الجميل هذا رحلة ممتعة، تمتدُّ من بيت سهيلة مزار لك بنظران فالبصرة الى لندن ومياه الخليج والساحل العماني حتى زنجبار والهند واميركا، يتعرّف من خلالها على طبيعة المجتمع البصري، الميَّال بطبعه الى التعايش وقبول الآخر المختلف، وليكتشف روائياً مختلفاً
أيضاً.