المدائن العتيقة.. آثار وأسرار

ثقافة 2022/03/02
...

  د. علي ثويني
نلفت النظر إلى أن الساسانيين لم يكن لهم صلة بفارس البتة فلغة دواوينهم كانت النبطية العراقية وعاصمتهم طيسفون أو المدائن الواقعة على تخوم بغداد (سلمان باك) وهي سلوقيا أو مدينة بابلية قديمة، ولا يعرف حتى اليوم عن لغة الساسانيين الأصلية، وقد راق لبعض (القوميين) من الفئات العراقية أن ينسبوها لهم من دون دليل.
 
أما عمارتهم فهي محض سياقات للعمارة الرسوبية العراقية وأن أبعد أثر لهم لا يتعدى أميال عن الحدود السياسية الحالية، وأن مكوثهم في التاريخ لم يتعدى الأربعة قرون، وهو غير ذي شأن أمام أربعين قرناً سابقة من المنتج الحضاري المحلي.
رصد الباحث المصري الدكتور فريد الشافعي، بأن آثار منطقة بايكولي (Paikuli) التي فيها أثر للملك نارسي (Narse) وتؤرخ لسنة 294م أو أبعد من ذلك في قصر شيرين وكذلك (سرفستان) و(فيروز أباد) او (سوس) في (الأحواز) وكذلك في (دستجرد)، بأن كل هذه المدائن متاخمة للحدود العراقية الحالية ولم يأتِ ذلك اعتباطا، إذا علمنا أنها تبعت للفر والكر خلال القرون الأخيرة في صراعهم مع العثمانيين. وحدث أن أهدى الإنكليز عام 1926 الأحواز إلى إيران، بعد خداعهم الشيخ خزعل الكعبي. 
 وبيَّن الدكتور الشافعي بأنَّ الآثار (الإيرانية) واقعة داخل العراق في منطقة (الأحيمر) أو (كيش) أو جنوب المدائن (طيسفون) عاصمتهم، وكذلك آثار الحضر وآشور والحيرة، ويؤكد أن: (لم تمكث فارس في مكان القيادة إلا أكثر قليلا من قرنين في العصر الأخميني (539- 331 ق.م)، ثم عادت بلاد العراق بعد تلك الفترة الى مكانتها القيادية السابقة “على الأقل حضاريا”، وذلك منذ بداية العصر السلوقي). ويستخلص الدكتور الشافعي ثلاثة استنتاجات جوهرية في فهم إشكالية التداخل بين الإرث الفارسي والعراقي وهي:
 إن العمارة الأخمينية التي سبقت العهد الفارثي والتي وجدت آثارها في فارس، هي مشتقة من التقاليد والأساليب الآشورية القديمة التي موطنها العراق.
 إن العمارة الفرثية التي لم يعثر على أمثلة منها خارج أراضي العراق إلا ما ندر، متناثرة في الأجزاء الغربية من بلاد إيران المتاخمة للعراق.
إن الآثار الباقية من العمارة الساسانية تتركز بصفة خاصة في منطقة العراق، بينما يوجد القليل منها في فارس بل معظم هذا القليل يقع متاخما للحدود العراقية.
إن القصور الفارسية التي أرساها ملوك أعجبوا بالروائع التي شاهدوها في العراق كانت محققة لهوى الملوك وليس لها أصول معماريَّة في بلادهم بما تفرضها طبيعة أرضها، أو متطلبات العيش على هضبة فارس الجبلية. لذا فقد اندثرت عمارتها مع الاخمينيين. بينما مكث الأمر ثابتا في بيئته منذ ما قبل سومر، حيث مكثت المساكن المعقودة بالقبوات والقبات الصالحة لوقايتهم من فرط حرارة الشمس، وشيدوا ولا سيما في بيئة الأحواز منازل بحيطان حاملة ذات سقوف تحملها عوارض من جذوع النخيل، وطبقات من حصر سعف النخيل أو الصفصاف، ولحمايتها تليس بطبقة من المدر، وهذه من السنن البنائية العراقية حتى اليوم، بل وفي الجزيرة العربية كذلك. 
يذكر المؤرخ اليوناني (أسطرابون 61 ق.م - 15 م) في سياق وصفه للأحواز: (لحماية المساكن من وهج القيظ، كانت السقوف تغطى بذراع (50 سم) من التراب. وكان ثقل هذا التراب يفرض بناء جميع المنازل ضيقة مفرطة في الطول، ولو كانت الغرف متسعة لاختنق ساكنوها). ويذكر عالم الآثار الفرنسي (أرنست بابلون): (ولما كانت شروط البلاد المناخية، اليوم كما كانت عليه في الماضي، فطريقة البناء الحالية هي الطريقة عينها، التي استعملها سكان إيران الأقدمون. ويصادف المسافر منازل تختلف باختلاف ثروة أصحابها، وقد علتها قباب وعقود وسطوح وفق المتطلبات المحلية. وأكيد أن الإيرانيين الذين عاصروا الأخمينيين عرفوا، العقد والقبة من جيرانهم على ضفاف دجلة). وهو ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي (ديولافوا) الذي قال (نصادف اليوم عقودا معرشة، وعقودا مثلثة، في عقود كنائسنا القوطية في القرن الثالث عشر، وهي سيان مع عناصر الهندسة الاهوازية)، علما أن الطراز القوطي أستنسخ من العمارة الإسلامية في الأندلس، التي استعارت الكثير من الطرز العراقية، أقلها استعمال الآجر (الطابوق) والخزف (الزليج) ونقش الجص الذي تحول من سامراء إلى فاس ثم قرطبة وغرناطة.
وهكذا لم يكن للفرس أي حضارة ذات قيمة قبل القرن السادس قبل الميلاد باعتراف الجميع، وهو موعد متأخر مع التاريخ. إذ يذهب الكونت (دي جوبينو) معلقا على المنتج المعماري الإيراني: (إنَّ الإيرانيين لم يبتكروا شيئاً جديداً في الفنون، سواء أكان في عصر الأخمينيين أم عصر الإشكانيين أم بعد ذلك إبان عصر الساسانيين وحتى في العهد الإسلامي لم يكن للفرس طراز أو فن خاص بهم، بل إنهم اقتبسوا من غيرهم من الأمم، وأمكنهم في النهاية أن يخرجوا من هذه الأذواق فنًّا نطلق عليه الفن الفارسي).
ثمة حقيقة أنَّ كثيرا من الحضارات اتسمت بالصبغة العسكرية أو السياسية والتجارية أكثر من إنتاجها للفكر، ومن الاستثناءات كانت اليونانية مثلا التي حاكت الإسلامية كونهما حضارتين تدوينيتين. وهذه المقارنة تنطبق على الدول الإيرانية التي ظهرت كقوى عسكرية تتطلع للانقضاض على العراق دائما، بسبب خصبه أو امتلاكه محطات خطوط القوافل التاريخية. وكانت دول إيران سياسية وتجارية أكثر من كونها مثقفة تعتني بالتدوين وعمران المدن وترتقي بالعمارة والفنون. ويعلق على ذلك الباحث المصري الدكتور نجيب ميخائيل إبراهيم: (تفوق الفرس في ميدان الحروب ولكن أعوزتهم الثقافة والحضارة التي كانت للشعوب التي غلبت على أمرها)، ويقول في موضع آخر: (لقد دك الفرس أركان الحضارات في الشرق، وامتدت حروبهم من حدود الهند حتى البحر المتوسط، فزعزعوا من أسس الحياة الثقافية في البلاد التي حكموها، وقطعوا خيوط الحضارات الأصلية ومزقوها شر ممزق وقضوا على التطور الفني في كل
مكان).
ولا بدَّ أن نشير الى أن إيران كانت توائم العناصر الفنية القادمة من حضارات أقدم، إذ إن وفرة خامة الخشب الغابي في البيئات الشمالية من فارس، جعلها تستغله في تجسيد عناصر كانت أساسها من الآجر (الطابوق) كما الأعمدة في أصفهان وتبريز أو القباب في قزوين ونيسابور. مع إقرارنا أن الجنوب الإيراني مكث أميناً على العناصر الأولى مثل العراق، بسبب شحة الغابات، وتجسد في مدائن همدان وشيراز وأزد وعبادان. وبسبب وسع رقعة إيران الجغرافية. فشتان بين عمارة شماله البارد وجنوبه الشبه صحراوي القاحل والحار. ونلتقي المساقط المتضامة وشيوع خامة الخشب في الشمال تقابلها مساقط منفتحة ومهواة وشيوع لخامة المدر ومنتجها وعناصرها لدى عمائر أهل الجنوب، تماما كما هو الفرق بين العمارة الآشورية والبابلية، أو عمارة الموصل وجبال العراق، عن بغداد والبصرة. 
وعادة ما تستثمر فارس فترات الارتقاء الحضاري للعراق كما حدث إبان بابل الأولى ثم آشور وبابل الثانية، ثم الحقبة العباسية في الإسلام، لتكتسب الكثير، وتختزنه لنفسها، إذ نجد مثلا أن ما دُعي العمارة الصفوية وتجسدت في العتبات العراقية، فإنها صورة منمّقة من طراز العمارة العباسية في بغداد وسامراء، وأن نقش الجص في (نايين) هو نفسه الوارد على حيطان سامراء، بل إنَّ ما دُعي العمارة التيمورية التي عمت في آسيا الوسطى هي أسّ ذلك الطراز العراقي، حينما أخذ تيمورلنك نحو 1406 البنائين العراقيين ليقيموا صروح سمرقند وبخارى. 
لقد عمَّ الطراز الصفوي في القرنين السادس والسابع عشر، وأتسم بخصوصية، وأنتج أوابد ومعالم، ولا سيما في عاصمتهم أصفهان. ومن الملفت والمؤكد للاقتباس من الطرز العراقية أن أصفهان تقع في شعاب الجبال، ولديها غابات وحجر يمكن أن يشكل خامة أنموذجية للبناء، لكنهم اقتفوا العناصر الطينيَّة وبنوا بالآجر (الطابوق) وغطوا مبانيهم بالخزف الكربلائي رغم وجود الرخام. واستمر الحال في العمارة الإسلامية ولا سيما في العهود السامانية والغزنوية والبويهية ثم الإيلخانية والتيمورية، ثم الصفوية، بل وانتقلت للهند
المغولية. 
ونقف هنا على حقيقة أن أصل العناصر بمجملها كان عراقيا والاستعارة إيرانية بالتقادم الزمني. وقد تسنى لفارس أن تنشرها في أصقاع أبعد، فوصلت عمارة العراق إلى آسيا الوسطى والصين والتبت وبلاد الأفغان والهند المغولية وتوجت في معلم (تاج محل) باكرا الهنديَّة، بل والبلقان وروسيا شرقا ومصر وشمال أفريقيا والأندلس وصقلية غربا. وامتدَّ التأثير العراقي من خلال خامة الطابوق إلى عمائر كل الشعوب تقريبا، وطغى طابعها حتى على من بنى بالحجر والخشب، ولا سيما في أوروبا كما في بريطانيا وألمانيا وإسكندنافيا والبلقان، ناهيك عن حظوته في مدارس البحر
المتوسط.