وقوفٌ على لحظة قلقة

ثقافة 2022/03/06
...

 سلام محمد
 
يبدأ النّصّ بعنوانٍ متحرّكٍ «على ضفاف الهايكو» فالضفاف هي مساحة مؤقتة، يقف عليها القادمون من الإبحار، والذين يحاولون أن يبحروا، فهو عنوان منفتح على كلّ الاحتمالات والاتجاهات، ولا يدل على وجهةٍ معيّنةٍ، ويتضمّن لحظة الذهاب والإياب مرّةً واحدةً، وينتمي النصّ الى النوع الشعري أو الشكل الكتابي «الهايكو» ويتكوّن النصّ كما هو معروف من مقاطعٍ صغيرةٍ والقصيدة المقطعيّة دائماً تحتاج إلى مهارةٍ أكثر، وإلى أدواتٍ فنيّةٍ لا بدّ أن يمتلكها الشاعر. 
وثيمة القصيدة ثابتة مع حركيّة القصيدة وتغيّرِ مقاطعها بدءاً من المقطع الأوّل حين يقول:  
(جدران من قشٍّ
خلفها بركة آسنة 
امرأة الليل)
وانتهاءً بآخر مقطعٍ لا تتبدّل الثيمة، فكأنّها الفرجار أو الفرجال بالمصطلح الشعبي، الذي يكون ثابتاً في نقطةٍ معينّةٍ، بينما يتحرّك طرفه الثاني بكلّ الاتجاهات، وهو يعكس ما نعانيه جميعاً بهذه الثيمة، فهو حين يقول:  
(فاكهةٌ ملوَّنةٌ
أفواهٌ حائرةٌ
الّلوحة على سفرة الفقراء) 
فهو يحرّك بهذا المقطع المنلوج الداخلي لدى القارئ، ويثير بداخله شغف الأسئلة. 
ونحن نعرف أنّ جغرافيا النص، هي كما جغرافيا الواقع، هناك حدائق، وسهول، وجبال، وساحة حربٍ أيضاً، فهذا النصّ يتشكّل ضمن مساحة الانفعال، حيث الانفعال والقلق يبلغ أقصاه، لكنّه رغم اشتغاله ضمن هذه الجغرافيا المضطربة، إلا أنّه يروّض كلّ هذه الانفعالات، ويتحكّم بها كما يشاء بهدوء، وهو من الشعراء القليلين جداً- وجمالهم  الإضافي هو بندرتهم- الذين يعقلنون ويؤنسنون انفعالاتهم، فهناك نوعان للانفعال، انفعال إنسانيّ، وانفعال بشريّ، والانفعال والبشري هو الذي يرتبط بالغريزة، ويحتاج الشاعر الماهر إلى جهدٍ إبداعيًّ يتواءم مع موهبته؛ لكي ينقل غضبه من بشريّته، إلى إنسانيّته التي لا حدود لها.  ولو انتقلنا إلى تقنيّة التكرار سواء كان جملةً أم مفردةً أم شطراً، ففي كلّ قصيدةٍ له مزاياه، وغاياته، والمعنى الذي يخلّفه، وهو كذلك يمثل الزمن النفسي في القصيدة، إلّا أنّنا في قصيدة «على ضفاف الهايكو» لا نجد في قصيدةٍ كاملةٍ   تكراراً لأيّ مفردةٍ، ففي رأيي أن الشاعر الذي يحوّل عاطفته إلى موسيقى، لا يحتاج؛ لأنْ يكرر أيّ شيء.  
ويكون الجمال كثيراً حين يكون يقف الشاعر على قدرٍ عالٍ من الإحساس بالإيقاع، والشعور بالمفردة كما لو كانت سمكة، أو كائناً يتحرّك، فهو في منتصف النصّ وبعد جملةٍ من الأسماء والصفات في المقاطع الأولى، يأتي بفعلٍ مضارعٍ كاسراً الرتابة ومغيّراً نمطيّة الإيقاع، إذ يقول:  
(تدفع القطة بأنفها
باباً بفتحةٍ صغيرةٍ
فتنة العائلة)
 وهذا ما يسمّيه «باومجارتن» الإستطيقا وهي الخبرة الحسيّة، أو المعرفة التي تتعلّق بالإحساس والشعور الجمالي. 
 ويشتغل الشاعر ويركّز كثيراً على معنى المعنى، فهناك نصّ ترى أنت بعينيك أحداثه التي أراد الكاتب رسمها، من حزنٍ أو فرحٍ أو ما شابه، وهناك نصّ لا ترى أحداثه؛ بل تتخيّلها، فالنصّ ينبئ عن الحزن والعبثيّة، ونقدٍ عميقٍ للواقع المعاش، وتصويرٍ بارعٍ للحرمان وبعض جوانب المجتمع؛ لكن في الحقيقة هذا كلّه من استنتاج القارئ، فالشاعر يترك على القارئ خمسين بالمئة من تكوين المعنى، وهذا طبعا ما يصطلح عليه شتراوس «الكتابة بين الأسطر» وهو كذلك ما تدين به فلسفة انغاردن الظاهراتيّة التي تنصّ على أن: لا وجود للظاهرة خارج الذات المدركة لها، أي أنّ النص الذي يكتبه الشاعر لا وجود له خارج القارئ، فهو يكتمل بالقارئ الذي يفكّك رموزه، ويقف على حدوده، ويختتم الشاعر المولع بالحركة والسفر ربما، نهاية  نصّه ببدايتهِ، فهو كما بدأ بعنوانٍ متحرّكٍ، يختتم النصّ بمقطعٍ يحيل على الحركة، أو كأنّه تصوير لمشهدٍ متحرّكٍ على الدوام فهو يقول:  
(قطيع هارب 
من عشب المرعى
عدوى الوباء)  
وليس شرطا أن يسافر الإنسان أو أن يتحرك بجسده، فخيال الشاعر هو الذي يجوب العالم؛ بينما جسده واقف في مكان واحد، فأمل دنقل يقول: (مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة/ والسفر الطويل يبدأ دون أن تسير القاطرة).