نارٌ أليفةٌ.. نارٌ متوحّشة

ثقافة 2022/03/06
...

 حميد المختار
 
النار كائنٌ حي يتحرك دائماً وهو حرٌّ في اختيار اتجاهاته، وفي التماهي بها، يدخل في طينة التكوين فيصبح -عنصر خلق- فضلاً عن كونه مخلوقاً، وهو لا يستغني عن التراب والماء والهواء، فهي عناصره التي يتجلّى بها صارخاً على البسيطة.. ورغم التاريخ الإبليسي للنار لكنها تبقى في كثيرٍ من الأحيان نارا مقدّسة، يستعملها الرّب لتطهير عباده المخطئين، لذلك فقد دخلت النار في الذاكرة الجمعية ابتداءً من أسطورة (بروميثيوس) الذي سرق شعلة من نار الآلهة المقدسة، فعاقبهُ زيوس بنسر يأكل كبده كل مساء، وبعد أن أعطى بروميثيوس كل العطايا والهبات للبشر، وجد أن ما ينقصهم هو النار، لقد آمن بقدرة البشر على الإبداع وكان متأكداً أنهم عندما يكتشفون النار سيُحسِنون استخدامها ويصنعون بها العجائب.. واستمرت مسيرة النار في الوجود من باطن الأرض كنارٍ أزلية، وعلامة للثروات الطبيعية، وصولاً إلى النار الأليفة التي حدّت الحضارة من قسوتها وسطوتها على البشر، فتصاغرت مذعنة للناس، باعثة الدفء في أوصالهم، فتنوعت وتطايرت شظاياها الشرارية لتشكّل النار الكهربائية، ثم نار المدفأة، نار الأفران والتنانير والنار النطاسية التي ستَكون آخر الأدْواء، والنار المضادّة التي بها تُطفأ حرائق النار الشرسة، خصوصاً في الغابات، فتخلّقَت منها صقور النار التي تعلّمت الضَّغينة من الإنسان وصارت تحمل بين مخالبها فرعاً مشتعلاً من الحرائق، وتطير به مسافات بعيدة ثم تسقطه على أرضٍ عُشبية لم يبلغها الحريق بعد، لتؤجج النار فيه، حدث ذلك كثيرا في غابات استراليا، ثم النار السمادية التي تأتي بعد الحصاد مباشرة، فتحرق الجذور النابتة في الأرض لتُخرج زرعاً جديداً، وقد استغل هذه الفكرة بعض المرضى والمهووسين الذين خلَصوا إلى نتيجة مفادها: أنَّ الحروب ستَحرق الشعوب المتخلّفة، ومن رمادهم ستنبعثُ أجيال جديدة من البشر أرقى من أسلافهم، وكأن الحرب أمست عنقاءً نارية تُحيل المحيطين بها إلى حجر أصم، وكوّنت من البشر طائراً فينيقياً ينبت من رماده الحجري، بمعنى أنهم حوّلوا الثيمة الإنسانية في النار الأليفة إلى مغزى تدميري في النار 
المستهترة.
ثم تأتي النار البرية التي يَستخدم البشر وهجها في طرد الحيوانات المفترسة، لتمر عبر الزمن إلى سر التابو والطقوس العبادية، فتصبح آلهةً لشعوب كثيرة وصولاً إلى تطهير جثث الموتى وحرقها، فتصبح رماداً عند الهندوس مثلا، إلى نار الشموع الطافية على سطح الماء كنذور للأولياء الصالحين.. ولأن النارَ جسدٌ متكامل، فسيخرج منه نسل الشرر والجمر، حتى خُلقت زوجته من ناره، وكما جاء في الحديث: لما أراد الله أن يَخْلِق لإبليس نسلاً وزوجة، ألقى عليه الغضب، فطارت منه شظية من نار، فتكونت منها زوجته، إنَّ النارَ هنا صارت عنصراً داخلياً، له فحوى (جنسي) يسبّب حرارة الالتحام مع الآخر، وتؤكد الخرافة الشعبية أنّ نار الحَدّاد تَقْطَعُ النّسل، لأنها شيطانية، لذلك يُقال الحدّاد لا يُعقِّبْ، ثم تبدأ سلسلة النار الشريرة مسيرتها، من نار البراكين والصواعق والشرارات الومضية ذات الشحنات الكهربية، مستمدة من وجه الشمس كل تعازيم التخريب والبلاء، ممّا حدا ببعض الشعوب إلى عبادة الشمس خوفاً من شرورها، وهناك من صار يَعْبد النار، ويقيم لها طقوس الولاء، وصولاً إلى العقل الباطن للإنسان وتركيبته الفسيولوجية، فتبدأ النار فعلها، من سخونة الجسد وحُمّاه ثم تفعل فعلها في حالات تلباثية غامضة، كالاحتراق الذاتي للجسد الإنساني، وهو احتراقٌ تَكون النارُ فيه أفقية، تلتهم الجسد وتُحيله إلى رماد، لذلك فالنار مهما كبُر دورها في بناء الحضارات بجذوة مستمرة، بقدر ما هي أداة تخريبية، كالنار السيكولوجية التي أعطت الضوء الأخضر لبقية الأنواع النارية أن تتمظهر معلنة عن وجودها على غيمة كهربائية، إلى باطن قيعان البحور لتتوهّج في بطون الأسماك الضوئية، ليعلن طائر النار عن رحلته السرمدية في عقول البشر ليزيح الستائر الشفافة عن كرنفال النار في المحارق التاريخية لجثث القتلى وصرعى الطواعين والوباءات، ولا بد للنّار من مرتعٍ للرقص وإقامة حفلات الشواء، كطقوس المجوس
العبادية.
وللنار أسلاف وأحفاد، فالشظية أنثاه، والشرر القادم من معنى الشر رجلاه، وجناحه الدخان، والأزيز صوته المخنوق، والفحيح نداءٌ لشهوته التدميرية.. لكن رغم كل هذا الجبروت، لم تستطِع النار حرقَ الأنبياء، حين تؤْمر بأن تكونَ برداً وسلاماً، كما في حالة النبي ابراهيم عليه السلام، ومنذ ذلك التاريخ صارت النار تُصغي لأهل العِرْفان والمتصوفة، وتفرش لهم بجمرها سجاجيدَ حمراء ساخنة، ليسيروا عليها وليصلوا إلى قلب الفكرة في بيت النار، ولن أنسى (غاستون باشلار) وكتابه المهم التحليل النفسي للنار الذي يُعدّ بداية القطيعة بين أبحاث باشلار في العقل العلمي واهتماماته بالإنسان الحالم والشاعري، وثمة الكثير ممن كتبوا عن النار، منهم (دانتي) الذي كتب الجحيم، وهو الجزء الأول من الكوميديا الإلهية، ولحقه (ادواردو غاليانو)، وثلاثيته الشهيرة ذاكرة النار، وكذلك صاحب نوبل (إلياس كانيتي)، هناك فصل عن النار في كتابه (الجموع والقوة)، إذ يقول عن النار: «ومن جملة ما تتميز به النار هو العنف الذي تتعامل به مع الغابات والشعوب ومع مدن
بأكملها».. وأخيرا ستبقى قيثارة نيرون ترِن وتبعث بموسيقاها مع أزيز النار التي أحرقت روما وأحالتها إلى
رماد.