ظلمة الكون الداخلي ..التمثيلات الصوريَّة للجسد العاري

ثقافة 2022/03/07
...

 ناجح المعموري 
شيوع أدب المراثي في الشعر العراقي القديم، نتاج للدمار الهائل، الذي فرضه الآلهة الكبار، وكانت زوجة الإله، أو الأم الكبرى هي التي تبكي المدينة وما حصل عليها من دمار. وتمثل تلك المراثي نماذج من أرفع الشعر الإنساني المكتوب حول خراب أحلام الإنسان واستمرار الندب على الخسارات. وما تنتجه الحروب دمار لكل ما حلمت به الأم ومن ثم خسرته وفقدت أولادها وكل ما تمكنت من إبداعه وتشييده، وأستطيع التذكير بالاجتماع الرمزي الذي عقده مجلس الآلهة في ملحمة جلجامش لاختيار واحد من اثنين للموت، هل يتم اختيار انكيدو أم جلجامش؟ وأنا هنا غير معني بالملحمة الآن.
الاختلاف قائم بين الذكر والمؤنث، اليان/ والين هذا اختلاف ضروري جداً، لأنه يؤدي للتجاذب والتوحد، وتشكيل قوة كونية قادرة على التوليد، وتكوين قوى ثانوية أخرى. وتضطر هذه القوى القابلة بالرضا والتجاذب والادخال والاندماج، من خلال الإتصال الذي يجعل المرأة كيانا منتشياً وسعيداً، وهي أيضا تمنح الفاعل طاقة الإحساس بالجبروت، لأنه يلبي رغبة الأم/ الأنثى التي لا تستطيع وحدها، لأن الكينونة ناقصة، وتضطر للذهاب للشريك ودائماً ما تختار الأم/ المرأة من خلال الآلهة العظيمة رجلا بطلا قادرا على تلبية ما تريده من حماية وحسم صراعاتها مع الأعداء ويوفر لها طاقة فحولية لا تنضب، ومثال ذلك الإله بعل، أحد آلهة بلاد الشام وآسيا الصغرى، وهو المتعالي والمتسيّد والقائد الذي لا ينهزم في معاركه، كما أنه يمثل رمزاً للكنعانيين وقد مجدته العديد من الأساطير والملاحم الخاصة، وحتى في الوقت الذي تتسيد فيه القوة وإرادة القسوة والهيمنة، تظل الميول والحاجة لمزاولة الجنس ضرورية ومهمة للغاية. وفي أحيان لا تجد الأم، أو الآلهة زوجها الذي غاب عنها أو مات، فإنها تحوز على ابنها زوجاً وابناً يؤدي الوظيفتين. هذا يعني لنا بأن الالهة، أو الأم المبجلة لا تكتمل كينونتها إلا بوجود الطاقة المكملة لها من خلال الادخال الايروتيكي.قال المفكر (فولفغانغ) أصبح مفهوم الخصوبة والسلام من خلال التواصل الجنسي مع الأنثى المتمثلة بالربة العظمى/ البغي المقدسة معبراً عن الزراعة ودخول الذكر في هذا الطقس بقدراته الجنسية ليكون مسؤولاً عن ضمان وفرة المحاصيل والقطعان وصحتها وتكاثرها ليصبح طقساً ممكناً بسهولة غفيرة كظاهرة عقائدية. 
يذهب الفنان العراقي بشكل مباشر نحو الجسد العاري، لانه معني برسالة جعل منها الدين جوهراً للعلاقة بين الإله والآلهة. أو بين من يعوض عنهما. الفنان أراد أن تكون المرأة الحجاب المعلن عنها وهي تتقبل الرجل. الالهة مختفية والكاهنة تمثلها الغائب لا يجيد الممارسة، حتى الأم الكبرى. وإن أشارت الأساطير بتحقيق ذلك فإن الدلالة تمنح الأم الكبرى صفة كونية والتداخل في الكون محسوس، لكنه غير مرئي، فالأجرام تتسلل بهدوء وتتداخل وتنتج لنا الفصول والمواسم التي تحتاجها الأرض. تترطب بها وتحوز انبعاثها وتثمر ويأتي زمن الاصفرار والقطاف.عري كامل هذا ما تريده المرأة. مكشوفة لتجعل الادخال نوعاً من الامتلاك الكلي. لا شيء يستر الجسد وكأن الستر الأول أفسدته الحياة، وما عاد مطلوباً. الانكشاف يستحضر تصاعد الاستعداد والابتداء بالذهول والدبيب نحو الظلمة، ظلمة الكون الداخلي الذي يستقر بالمرأة، والفحل يركض إليه، لا يخشى ظلامه الدامس، يروضه، يلبس كل منهما السواد، بعد أن يحتل الذكر مكانه، لأن حرارة الجسد الذكوري امتحانية، مختبرة وكما قال أدونيس: جسد المعشوق أشبه بنور ساطع وسط الظلمة.
هذه المرأة -النور- إنما هي غاية ووسيلة في الوقت ذاته. غاية في حدود الفعل الجنسي ذاته، ووسيلة للإحساس على نحو أعمق، لفهم سر الكون حق الفهم. وسر الكون هذا لا بد وأن يكون إنسانياً لأن الجوهر الكائن الإنساني، إنما هو تجاوز تناهيه. فالإنسان متناه، لكنه متناه في تناهيه، فهو يتجاوزه، على الدوام. وها هنا نعثر على سر الفعل الجنسي وسر الحب. هناك جسدان اثنان في الظاهر، لكن، في العمق، فإن فعل الحب يعني التوحد مع الكون عبر الجسد، إنه يعني التوحد مع جوهر الكون.ليس الرجل من يملك مفاتيح سر الحب، إنها المرأة. لأن المرأة كينونة، وحياة مانحة، والرجل غير قادر أبداً على العيش وحيداً، ومن غير امرأة، يعني من غير حب، وليس من غير اتصال إدخالي، لأن مثل هذه الحاجة تتوفر وموجودة في العراق القديم في المعابد والحانات، لكن هذا الفن المرهف يحقق حبه للتي عشقها وحافظ عليها وبث فيها هوسه وجنونه.تتكامل كينونة المرأة بحضور الرجل وكينونته، أحدهما يستكمل الآخر وكل منهما يعطي الآخر ما يريده أو يكرمه بما يعوزه.
الملاحظة المهمة في تمثيلات الجندر -على الرغم من تنوعها - هو التباين. وأعتقد بأن التمثل الصوري الممتاز، بدقته وشعريته، متأتٍ من الانغمار بصورة الأنثى، التي من المحتمل أن تكون الحبيبة أو الزوجة، أو البغي التي لها مكانة خاصة بذاكرته، ولذا يبدو التمثيل الخاص بها مثيرا للمستوى الجمالي. وتوجد عقيدة معروفة في المصريات القديمة، أن رسم شخص ما يعني معادلاً موضوعياً تاماً لوجوده، لسعيه، ليس في الحياة الدنيا فقط، لذلك كان خصوم الإنسان يدمرون بعض ملامحه في الرسوم من الحياة في الآخرة.أرجو أن لا يفهم من كلامي عدم وجود فنان، أو عدم وجود مساعدين فهم يعملون لمساعدة الفنان الأسطة. الممتلك للمهارة. لهؤلاء وظائف أخيرة، إضافة رتوش أو حك زوائد وهكذا. أشارت الملاحظات الفنية عن الفن العراقي بأن من يتعاطى هذه التجربة يمتاز بخصائص ممتازة جداً.
قال سعيد بنكراد: هناك عري آخر تكتشفه العين من خلال القميص الذي تضعه المرأة فوقها، إنها عارية لقد دثرها الواقف أمامها ضمن وضعية مزدوجة تجمع بين الجانبية عند الرجل، إنها بذلك تشير الى حكاية يروي تفاصيل ما وقع أو يمكن أن يقع. بالإمكان توظيف هذا الرأي ونذهب به لقول ما نريد الإشارة له، حول الاتصال الادخالي بالجسد العاري، والذي تتصوره المرأة متمتعاً في كل مرة. لأنها لا تجد جسدها مكتملاً بقوته وشعرية الشهوة وطاقة الارتعاش إلا وهي عارية، إنها تحس بعريها وهي تحت الدثار وهذا ما يتصوره الرجل الذي لا يشعر باكتمال غزوته إلّا بانكشاف جسد الأنثى تماماً.كنا قد تحدثنا مراراً وكثيراً، عن المرأة ورمزيتها الشعرية العميقة. إنها الأرض. والأرض هي، كلاهما كانا هكذا مع الأصل البدئي، ولأن الأرض هي الأم العظيمة. تكفلت بها المرأة، ولأن العلاقة هكذا فإن الحب يتم فوق الأرض. إنه محسوس وجدي كما قال أدونيس. ثمة في الحب طعم اللذة الحسية مطعم بنشوة روحية. هذه التجربة التي تدّل على الوصف، لا يمكن أن نعيشها خارج الحب، لذلك فنحن لا نستطيع أبداً التعبير عن فعل الحب، بنحو كامل وكلي، على الإطلاق!.. نحن لا نمارس الحب بالجسد، وإنما بالروح، ما دمنا بشراً وما دام الكائن البشري جسداً وروحاً في آن معاً.التمثيلات المصورة للمرأة العارية تنطوي على فن رفيع وخبرة عالية فيها روح خفية للفنان المحترف، والتمثيلات عالية الجودة نتاج خبير ممتاز بآليات، ومعرفة بتفاصيل جسد الأنثى. من يرى التمثيلات الصورية للجسد العاري، سيتوصل بعد الاطلاع على العناصر والفواعل المساهمة بصوغ هذه المزاولات، ذات التوجه الطقوسي وإشاعة حضور الدين بوصفه نسقاً ثقافياً، وهذا يعني بأن هذا الكم من التمثيلات. وبالإمكان أن نتعامل معها بوصفها هوية ثقافية متنوعة الدلالة. صحيح يؤدي الفنان الماهر وليس الشغال البسيط كما ذكرت د. زينب البحراني، عمله في تجسيد الأنثى العارية. ليس الأنثى بشكل عام، وإنما التي يعرفها ويختزن تفاصيل جسدها بذاكرته.. إنه يعيد جسدها شعراً متخيلاً، يعمل مثلما يؤدي الاتصال معها ويتكتم عليه. يظل فالوسه مضموما خاتلاً في 
ظلمتها.