حدائق الخيال التي تتقافز فيها ضفادع حقيقيَّة شعريَّة الاختزال:

ثقافة 2022/03/08
...

(الشعر) هي واحدة من أشهر قصائد ماريان مور، وقد ظلت الشاعرة تنقحها وتحذف منها على مدى خمسة عقود من الزمن.
النسخة التي تركز عليها القراءة هنا تتكون من ثلاثة أبيات فقط، وتوجد نسخ متعددة أخرى متفاوتة في الطول لهذا النص، واحدة منها وهي الأشهر تتكون من خمسة مقاطع بالثيمات الأصلية للقصيدة ذاتها التي نشرت للمرة الاولى عام 1919 في ديوان (الآخرون) واستمر نشرها بنسخ متباينة الطول، حيث عمدت مور في آخر الأمر إلى اختزال النص إلى ثلاثة أبيات فقط. ملحقة النص المؤلف من خمسة مقاطع في آخر أعمالها الكاملة ما جعل طريقة التعامل مع القصيدة معقدة بعض الشيء بالنسبة للقراء.  
 محمد تركي النصار
تتحدث مور في النص عن مشاعرها تجاه الشعر، ففي البيت الأول تبين بأنها تكره كتابة الشعر بشكل صريح، ثم تنتقل إلى القول بأنها تحصل على بعض الفائدة من قراءته واصفة القصيدة بأنها مكان تقيم فيه الحقيقة والأصالة:
 
ثمة مكان فيه لما هو أصيل
أيد  تمسك، أعين
يترقرق دمعها، شـَعر يهفهف
لابد من القول انها أشياء مهمة
ليس بسبب امكانية تفسيرها تفسيراً مبالغا فيه
بل لأنها مفيدة
تشتبك ماريان مور في (الشعر) مع ثيمات الكتابة والتعبير عن الذات، إنها قصيدة عن الشعر، حيث تتحدث عنه واصفة إياه بأنه ليس بالندرة والهامشية التي قد يتصورها البعض، وفي هذه النسخة ثمة اختزال شديد بدون أية قافية أو نموذج وزني بل تعتمد القصيدة أسلوب الشعر الحر.
ونحن نلقي نظرة على النص نرى بأن البارز فيه هو قطع الأسطر بشكل حاد حيث تتباين الأبيات بشكل واضح من حيث الطول، اذ يتألف البيت الأول من خمسة مقاطع، والثاني من تسعة عشر مقطعا والبيت الأخير من أحد عشر مقطعاً، وتقرأ القصيدة كما لو أنها جملة طويلة واحدة:
 نحن نعجب بما نفهمه:
خفاش يتدلى، وهو يبحث عما يأكله،
أفيال تتدافع، حصان غاضب يتدحرج،
ذئب يتبختر تحت شجرة،
ناقد متغطرس يحك جلده مثل حصان تلسعه البراغيث
تستخدم مور في النص الجناس والوقفات في منتصف الأبيات، وفي البيت الأول تقول بأنها أيضا تكره قراءة شيء ما، وهو ما يثير فضول القارئ لمعرفة طبيعة هذا الشيء وماهيته، هنا نلاحظ بأن الشاعرة تستخدم أسلوبا يجعلها بمنزلة القارئة لنصها ربما في محاولة منها لتوريط الآخر في الدخول للنص واستخدام جدل موارب لمواصلة استكشاف ثيمة القصيدة.
يتساءل العديد من القراء عن الكيفية التي تكون فيها قصيدة مؤلفة من ثلاثة أبيات فقط خصوصا أنها تخلو من القافية والوزن والمحسنات فيها قليلة جداً، هنا يكون المحتوى هو المرتكز الذي يستند عليه توتر النص.  إن احترام وتقدير مور للشعر لم يثلمهما قولها إنها تكرهه، إذ تقول بأن ثمة سببا لقراءة الشعر   واصفة إياه بأنه مكان للأصالة، عارفة بأنه يمتلك قوة لاستعادة الأشياء المفقودة ما يديم صلة القارئ به على مدى العصور، إنه حقيقي، وهو مكان للشعراء ليتحدثوا عاطفيا وبشكل مباشر (وأحيانا بدرجة أقل) وهو مكان للقراء أيضا ليعيشوا تدفق المعنى الحقيقي والتجارب الأصيلة. من المفيد جدا أن نأخذ الأمر خطوة أبعد لنضيف بأنه إذا كان الشعر مكانا للحقيقة فأن هذا يطرح أمرا عن شيء مفقود في العالم خارج هذا المكان (الشعر)، بعبارة أوضح فان هذا العالم يعاني من نقص ما وأنه ليس أصيلا وحقيقيا كما يتمناه المرء أن يكون.  
وتتحدث مور عن المفيد والمفهوم، إذ ترى أن القارئ لا يكترث لما لا يفهم ولا يفيد وتعطي أمثلة، مثلاً: خفاش يبحث عن الطعام، حصان، ذئب تحت شجرة، الناقد الذي لا يتزحزح وهو يحك جلده مثل حصان يريد أن يتخلص من برغوث، مشجع البيسبول، لكن الكتابة عن هذه الأشياء ليس هي الأمر المهم بحد ذاته وليس هي ما يجعل الشعر مكانا للحقيقة والأصالة، فعندما يكتب عن ذلك أنصاف الشعراء تبقى باهتة وبلا مغزى عميق لأنهم لا يقبضون على جوهرها الأصيل، فبرغم تناولهم الأدبي لها إلا أنهم ليسوا حرفيي خيال مهرة ليقدموا لنا (حدائق خيالية بضفادع حقيقية فيها) فندرك عندها أننا نتعامل مع شعر حقيقي:
 حينما يبرع الشعراء الحقيقيون بيننا
ويتبعون الخيال اتباعاً ذكيا 
متحررين من الغطرسة والتفاهة، 
سيبدعون في تقديم
حدائق خيالية فيها ضفادع حقيقية.
يتساءل الشاعر والمحرر المعروف روبرت بنسكي في مقال له عن السبب الذي جعل ماريان مور تعيد كتابة القصيدة عشرات المرات على مدى خمسة عقود من حياتها الشعرية.
يقول بنسكي بأن واحدة من أكثر لحظات القصيدة اشعاعاً هي عبارة: (حدائق خيالية فيها ضفادع حقيقية) تركيب أطلقته مور وذيلته بعلامة سؤال بالرغم من أنه (بحسب علمي لا أحد أبدا عرف المصدر، وأنه من تأليف الشاعرة، لكنها وجدته نوعاً ما تعبيراً مثيراً، فعمدت إلى الإيحاء بأنه عبارة متضمنة في القصيدة.. ومعروف عن مور بأنها كانت تحب أن تجعل كل شيء زائغاً وذا ايقاع متحول ليبقى صعباً على القارئ تخمين مقاصدها بالضبط.
تعد النسخة الأكثر شهرة لهذه القصيدة هي تلك التي نشرت في الأعمال الكاملة للشاعرة عام  1967 وينظر لها العديد من القراء وزملاء ماريان مور من الشعراء بأنها مثال نادر للحذف والاختزال حيث أبقت مور منها على ثلاثة أبيات فقط: 
أنا، أيضا أكرهه.
فقراءته، وأنت تحمل له كل هذا الازدراء، تجعلك تكتشف شيئاً فيه، 
برغم كل مايقال، وهو إنه مكان للحقيقة والأصالة.
وكما يقول بنسكي فأن هذا الضغط للقصيدة يبدو بأنه مصمم لازعاج المعجبين بها (وربما النقاد على وجه الخصوص والاكاديميين  الذين كتبوا تعليقات ودراسات عن النسخ الأطول منها) وسواء كان الهدف إثارة أو إزعاجاً أبقت  مور على النسخة الأطول من النص بما يشبه الملحق  فلم تفرط بقطعة من روحها وتاريخها نشأت وعاشت معها لأكثر من خمسة عقود من الحذف والمراجعة والتنقيح.