مسرحيَّة هدايا عيد الميلاد.. قراءة لواقع طفلنا المعاصر وأزماته

ثقافة 2022/03/09
...

  د . سعد عزيز عبدالصاحب
عرضت مسرحية (هدايا عيد الميلاد) وهي من تقديم فرقة صلاح الدين الوطنية للتمثيل في مهرجان الحسيني الصغير الدولي السادس لمسرح الطفل بكربلاء، وقد حازت على إشادة وافرة من قبل المعنيين بمسرح الطفل، إذ انفتح نصها الدرامي الذي ألفه عمار سيف على توليد بنية تواصلية وتشاركية ما بين العرض والمتلقي.
 
الطفل كهدف رئيسي ذهبت إليه المسرحية وهذا يحتاج في تقديري لتنفيذه على خشبة المسرح امتلاك ممثل غير نمطي مرن وحكاية بسيطة غير معقدة تستطيع أن تنتج بحبكتها ومبناها المكثف ومضامينها القيمة التربوية والجمالية التي تقع على عاتق الخطاب المسرحي للطفل، فجاء النص محملا بدلالات تعنى بطفلنا المعاصر تفضي مدلولاتها السمعية والبصرية المتكئة على نظريات اللعب ونظريات التعلم لتوليد عرض ممسرح رشيق اعتمد في متنه الحكائي على سرد واقعة الطفل في مناسبة الاحتفال بميلاده وكم الهدايا الكبير التي يستيقظ صباحا ليجدها أمامه فيحار في اختيار الأنسب منها للعبه فيختار أكبرها ليخرج منها فجأة المهرج الملون بحبله واستعراضاته الحركية الرشيقة واعتماده فني المايم والبانتومايم في خلق علاقة تشاركية وتفاعلية مع المتلقي، فيلعب الطفل مع المهرج عديد الألعاب وكان لمفردة الحبل تأثيرها الكوميدي الواضح في ضحك الأطفال ودهشتهم.. يفكر الطفل المحتفى بميلاده هنيهة ويكتشف أن للعب نهاية مهما طال زمنه وله وقت محدد وعليه أن ينصرف لاكتشاف علب أخرى ويفك أسرارها فيفتح علبة ثانية ليخرج منها الطبل تلك الآلة الموسيقية التراثية بمدلولها الشرقي الإسلامي، وحسنا فعل الدراما تورج في تعاطيه مع النص وتحويله مفردة (الجيتار) من نسقها الغربي في النص الأصل إلى طبل يحمله (ابو طبيلة) الشخصية الماثلة في فلكلورنا ووعينا الجمعي بوصفها أداة للتنبيه والاستيقاظ لأجل تناول السحور في رمضان، وكان الربط الدراماتورجي رائعاً وذكياً في فهم الطفل لأهمية الزمن من خلال أبو طبيلة ولعبة الماجينة الشعبية التي أسهمت في تطرية العرض وانفتاحه على فلسفة اللعب إخراجياً من جهة وتأصيل لتراثنا وفلكلورنا الشعبي الغنائي من جهة أخرى، ولكن الطفل لم يقنع بكل تلك الهدايا التي وجد فيها شريكاً إنسانيا متجسداً فآثر التحول والتبؤر نحو ذاته المأزومة ليخرج مفردة البندقية لاعبا (البوبجي) تلك اللعبة التي ذهبت به نحو الوحدة والتوحد ذلك المرض النفسي الخطير الذي يعاني منه اليوم معظم أطفالنا بعد أن تركوا كل الألعاب المشتركة والإنسانية وراحوا يلعبون ويندمجون مع الفضاءات واللعب الافتراضية الوهمية التي تسببت في تحطيم مخيالهم ومهاراتهم الذهنية والجسدية، وجاء نقد خطاب العرض لها موفقا عندما سحق الطفل تلك اللعبة (البندقية) بأقدامه منتصراً للشراكة الإنسانية وتفاعليتها في فكرة اللعب، ولكن الطفل يهده التعب ويبحث عن سلامه الداخلي مكتشفا أن هديته الكبرى تكمن في المعرفة عندما حولها العرض الى لعبة بشكل فنتازي مائز مجسدة بالكتاب الذي لم يعد يقرأ اليوم ولنقرأ معا الحوار الساخر الآتي:
الطفل: هل تعلم أيها الكتاب..
الكتاب: سأعلم الآن..
الطفل: أنا دائما أخبئ نقودي بين صفحاتك..
الكتاب: لماذا؟
الطفل: لا أحد يفتحك هذه الأيام فنقودي في أمان ..
في نقد لاذع لإهمال فعل القراءة لدى الكبار والصغار على حد سواء.. ينشغل الطفل بصديقه الجديد الكتاب ويعده صديقه الصدوق وأقرب الهدايا وأثمنها إليه تلك التي يستطيع من خلالها أن يتعرف ويتعلم كل الأشياء.
أيضا، اعتمد فضاء المسرحية على مستويين في انشائه البصري الأول هو (السايك) الخلفي الذي أباح لنا بالزمن وحركته من خلال ظهور الشمس والديك والقمر في دلالة ذكية على ارتباط العرض بالزمن الفيزياوي الذي جمع في سلته عمر الطفل ميلاده والاحتفال به وحبل المهرج الذي كان أشبه بالحبل السري دلالة الولادة وطبل المسحراتي الداعي للاستيقاظ والنهوض والمستوى الثاني جاء واقعياً من خلال الشبابيك وعلب الهدايا التي تحولت إلى كواليس لشخصيتي المهرج وابو طبيلة، فضلا عن سرير الطفل الذي تحول بحركته إلى مكان للصراع بين المهرج والطفل وتحول إلى مكتبة ملونة في أروع تحول دلالي شهده العرض يدل على سعة المخيال الإخراجي للمخرج أبا ذر الداوودي فضلا عن البهجة البصرية واللونية التي تشكلت منها أزياء الممثلين والسينوغرافيا في كرنفال لوني بهيج تفاعل معه الأطفال سمعياً وبصرياً في ضوء الدهشات التي كنت أرقبها في عيونهم وردود أفعالهم الصوتية وتفاعلهم الجسدي مع العرض، فالمتلقي أصبح فاعلا أساسيا يعكس في ضوء مرآته أفعال الأداء التمثيلي بفرضية اللعب الحر.
كما واعتمد الأداء التمثيلي في مسرحية هدايا عيد الميلاد على نظرية اللعب وتثوير القيم التربوية والجمالية في ضوء ابتناء علاقة تشاركية وتواصلية مع المتلقي الطفل بفواعل نظرية الانعكاس والمحاكاة والباروديا الساخرة، ونجح الممثلون في اشتراع أسلوب أدائي اعتمد في شكله الخارجي في الاتكاء على (الكاركتر) المنمط لشخصيتي المهرج وأبو طبيلة والإنشاء التخيلي لشخصية الكتاب وإنشاء وحدات أدائية صوتية تكرارية منغمة أسهمت في تنوع الأداء فالممثل مؤمل عباس الذي اتقن شخصية الطفل الحالم بردود افعال مقنعة وصوت واضح واسترخاء أكيد على الخشبة ولولا بعض السمنة في جسده وبطء الحركة أعاق نوعا ما من استكمال بلاغة الصورة الأدائية لديه وكان الممثل مصطفى فائق بدور المهرج على موعد مع الإبداع من خلال مرونة جسده وإيماءاته المعبرة وردود أفعاله الدقيقة في توقيتاتها الزمكانية وإنشائه مع الطفل علاقة تشاركية فائقة الجمال والفائدة، والممثل عبدالرحمن مطر في شخصية ابو طبيلة بأدائه المتقن وابتسامته التي لم تفارق محياه ودقة إيقاعه على آلة الطبلة ونجاحه في خلق علاقة مع المتلقي ولا يمكن إهمال جهد الممثل معتز الربيعي الذي اضطلع بأداء شخصية الكتاب وإبراز الجوانب العقلية والتنويرية لها في ضوء حركته الراكزة وهو يحمل على كاهله قطعة ديكورية بالغة الثقل لكننا رأيناه فيها رشيقا ومكتنزاً، وأشير هنا إلى ولادة كاتب جديد ومهم لمسرح الطفل وأعني المؤلف عمار سيف الذي أنتج نصاً مكثفاً وبليغاً خاليا من الاطناب والفائض اللغوي واللفظي، نصا محبوكاً على مستوى المبنى الدرامي واهمية رسائله ومعانيه ومقاصده التربوية النبيلة التي ما أحوج مجتمعنا وأطفالنا اليوم اليها وهم يخوضون غمار خطواتهم الأولى في دروب حياتنا الصاخبة.