ماذا نُريد من السيَّاب؟

ثقافة 2022/03/09
...

 علي محمود خضيّر
 
يكاد السياب يكون أكثر الأسماء الشعرية التي تعرضت للدراسة والجدل في الإعلام الثقافي. أضواء ساطعة تسلط على الرجل في كل مناسبة، وأحياناً من دون مناسبة، على أنها، في الأغلب، لا تتناول جوهر شعريته وخصوصيتها، ولا تقدم قراءة وفق الرؤى النقدية المعاصرة ولا تطرح على تجربة الشاعر أسئلة جديدة، بقدر ما تدور في حلقاتٍ مفرغة من التفاصيل الشخصية. حتى باتت هذه المحاولات مملة، تراكم، في كل أوان، الرميمَ المستعادَ ذاتَهُ عن: مغامراته العاطفية، علاقته بالحزب الشيوعي، عبد الكريم قاسم، القومية، التقلب السياسيّ.. إلى آخره. 
كل ذلك يحدث وفق أحكام تستند الى الهوى الشخصيّ للكاتب، والانتماء الفكري والايديولوجي، والإغراء الذي يمثله الحديث عن السياب حتى وإن كنتَ لا تملك شيئاً لتقوله. كلام رميم قصده الإثارة ولفت الأنظار. أُتيحَ لي في الفترة التي عملت فيها على تحقيق الأعمال الشعرية للسياب فرصة التعرّف على حقيقة هذا التجني الذي أسمح لنفسي بِرفعهِ إلى مقام الظلم بحق الشاعر. لقد كرّس الإعلام الثقافي وغذى، على مدار عقود، تلك النبرة التي لا ترى في السياب إلّا شخصاً مضطرباً، متقلباً، ممروضاً بهوسه النسائي، لا موقف له، ولا حكمة تعينه. وحَيَّدَ جانباً تقييمَ الظروفِ والتَّحقُّقَ من الوقائع والشواهد. 
المخجل أنَّ هذه الشائعات جرى أخذها وتكريسها من مصادر ثانوية، مشوشة، يمكن دحضها والإشكال عليها ببساطة. كان السيّد غيلان السياب يُحدثني بهدوء يخفي مرارةً كبيرة عن (الثوابت السيّابيّة) التي سببتها ماكينة الإعلام، وهي ماكينة تميل حيث يميل الهوى السياسي للمرحلة، فمرة يجعلون من السياب بعثياً لأنه كتب قصيدة يُحيِّي فيها أحداث 1963 ويهاجم قاسماً، وأسرة الشاعر تملك ظروف القصيدة التي تقلب الموقف بشكل حاسم خاصة إذا عرفنا ضغوط علي صالح السعدي نائب رئيس الوزراء في حكومة عارف حينها. 
وحين تقوم الحرب العراقية الإيرانية تُنسب للسياب قصيدة "يُقاتل فيها إلى جانب الجيش العراقي!" كما تصفه إحدى مجلات المرحلة تلك، وهي قصيدة لا أصل لها في تراث الشاعر ولا تنتمي لمستوى وأسلوب شعره. وثالثةً قصائد ومقاطع تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي منحولة بِسْمِ بدر، وهي في الواقع ليست من شعره في شيء، أكتفي بواحدة منها، انتشرت مؤخراً:
"خذني معَك.. خذ ما لدي وما إلي؛ وما فقدتُ من الحياةِ لعلني أسترجعك/ خذ هذهِ يدي؛ وقبيلتي؛ وأبي؛ وجدي.. خذ كل أحلامي وآمالي وشعري/ خذ كل ما أدري ولا أدري/ خذها إليك فإنها عمياء صمّاء؛ أتتك لكي تراكَ وتسمعَك".
وغيرها العديد من المواقف والحقائق المثيرة التي أجزم أنَّها لو أزيح الستار عنها لغيّرت كثيراً من التصور المضطرب عن الشاعر في الأذهان. هذا إن أردنا غض النظر عن البرامج الوثائقية والتقارير الخبرية والمتابعات التي تستعمل (مؤرخين) و(أصدقاء) للشاعر ومتحدثين لا يمتلكون معلومات دقيقة ولا تنطبق عليهم السمات التي ينسبونها لأنفسهم. كل هذا اللغط إن تم التغاضي عنه سيتحول إلى حقائق تاريخية راسخة تُصدقها الأجيال المقبلة فقط لأننا لم نصغِ إلى الرواية الأخرى، ولم نتجرّد من عادتنا القديمة في نهش بعضنا وإلصاق شتى النقائص بالآخر/ المتفوق، ظناً منّا أنه سيسقط ويندثر 
وينسى.
إن شاعراً استثنائياً غيّر مآل الشعر العربي في القرن المنصرم، وأحدث خرقاً عالياً في تاريخ الأدب العربي المعاصر، كالسياب، جديرٌ أن يكون الاحتفاء به على نحو أكثر جديّة وموضوعيّة وحصافة، بما يليق بنا كأمة أدب، تحترم تاريخها الثقافي وتقدّر رموزه. إن السياب يستحقُ مركزاً بحثياً تخصصياً في مدينته على غرار ما تفعله الإدارات الثقافية في العالم (مراكز وحلقات بحثية حول العالم لهولدرلين ورامبو وطاغور وغيرهم).
مركز يتم من خلاله حفظ تراث الشاعر على نحو علمي وتفعيل حلقات دراسية لتحليل شعره وحياته وإعادة الاعتبار لهما. وإصدار أعماله الشعرية والنثرية والدراسات النقدية عنه، والانطلاق من الشاعر إلى برامج ثقافيّة جادّة تسوِّق الشعر العراقي، توثيقاً ودراسةً، وتفعِّل حضوره في المجتمع، ولَعَمْري فإن الإمكانية والإرادة المخلصة متوفرة اليوم لتحقيق هذا الحلم.