حين تعلو الهستيريا العالم

ثقافة 2022/03/09
...

 نجم والي
في إحدى رواياته المشهورة عالمياً {الحرس الأبيض}، التي كتبها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ونُشرت عام 1924، يروي الروائي الأوكراني ميخائيل بولغاكوف حياة أسرة تعيش في العاصمة الأوكرانية كييف، تتحدث اللغة الروسية وتفكر بطريقة الطبقة الوسطى، وكيف أنها تقع بين رحى الحرب الأهلية الروسية التي وقعت بين البلاشفة {الحمر} والمناشفة {البيض}، لتدفع في النهاية ثمناً باهظاً في صراع لا علاقة له بها.
.
ذلك ما عرفه كل أولئك البشر الذين عاشوا الحرب، لاسيما مّنْ عاش منهم على حدود التماس الجغرافية أو "العائلية"، عشناه في العراق، في سوريا، في ليبيا، ومازال الناس يعيشوه في اليمن، حين يتم القتل والتهجير والاغتصاب على الهوية، أوروبا أيضاً عاشت تلك الويلات على مر تاريخها، فجأة يستيقظ الناس، ويكتشفون، أن لهم هوية واسم ودين يشكل تهمة لهم، الكاتب الإيطالي "بريمو ليفي" اليهودي الأصل، الكوزموبوليتي التفكير، كتب كيف أنه أكتشف "يهوديته" وهو يجلس في مقهى في فيينا، حين سمع في الراديو بياناً نازياً بعد دخول الجيوش النازية إلى فيينا، يحرم على اليهود الجلوس في المقاهي، بريمو ليفي الذي يفكر بطريقة الطبقة الوسطى، التي تؤكد على حق المواطنة والذي هو أمر بديهي لمن وُلد وترعرع وعاش في بلاد ما، يشعر فجأة بالقلع من مكانه، وضع مشابه عاشه الكورد الفيليون في العراق حينما صحوا ذات يوم في السبعينيات ووجدوا سيارات الشحن تنتظرهم في ساعات الفجر عند أبواب بيوتهم لكي تحملهم وتلقي بهم عند حدود إيران، لماذا؟ لأن النظام العراقي وقع في خلاف مع النظام الشاهنشاهي في إيران. 
ما حصل لكل هؤلاء البشر، وما يحصل الآن للسكان المدنيين العزل الذين أصبحوا تحت رحمة قنابل الأطراف المتحاربة ووابل رصاصهم في المعارك الدائرة في أوكرانيا، لا يختلف بمحصلته في النهاية عن هذه الأسرة التي وصف مصيرها صاحب "المعلم ومارغريتا" في روايته "الحرس الأبيض"، كما في كل الحروب التي دارت، حين يسأل المرء مَنْ يقاتل مَنْ هنا، سيحصل على جواب واحد على سؤاله، في هذه الحالة: روسيا ضد أوكرانيا، أو الروس ضد الأوكرانيين، لكن الحقيقة تقول (كما في كل الحروب)، هي أن هناك العديد من "اللاعبين" على ساحة اللعب، بما في ذلك أولئك الذين لديهم مصالح خاصة ضخمة، الولايات المتحدة الأميركية مثلاً.  وكما في كل الحروب، إن هذه الأطراف اللاعبة الأخرى التي لها مصلحة بالتصعيد في الحرب أكثر، ومن يتابع النشرات الإخبارية وتقارير المراسلين والمحللين في وسائل الميديا الغربية سيُصاب بالدهشة من الهستيريا التي تبثها، من غياب المنطق والعقل وسيطرة الديماغوغيا على اللغة التي تتحدث بها، وهي تتحدث عن طرفين متحاربين فقط، أحدهما معتدي والآخر معتدى عليه، أما المهنية والأمانة بنشر المعلومة، والتي تطالب الصحفي برواية قصتين مختلفتين، فقد انتهى أمرها منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب: هناك قصة واحدة، صورة واحدة تبعث رسالة واحدة، تدين طرفاً واحداً!.
من يتابع النشرات الإخبارية وتقارير المراسلين والمحللين، سيُصاب بصداع الرأس، لكن أن تصل دعوات الحرب إلى مجالات الثقافة والعلوم والسينما، لدرجة أنه يتم استبدال بوشكين ببوتين، ومحو كل ما هو روسي، فهذا ما لا يستوعبه عقل أبداً.
مجاميع كبيرة من العاملين في المجال الثقافي والعملي في أوروبا، عدد كبير من الكتّاب بدؤوا بالصراخ يقرعون طبول الحرب، لا سيما في ألمانيا والنمسا، وكأنهم لبسوا البدلة العسكرية، حتى أصبح من المستحيل الحصول على مسافة والتروي واللجوء للعقل، كما هو الموقف المناسب للمثقف الواعي والمفكر، ما يسود الآن، هو الزعيق وحسب، كما في كل الحروب. 
أوقات الحرب هي أوقات الدعاية. كل فشل يلام عليه الخصم، يكتب البعض وكأنه يجلس هناك على خطوط النار، يعرف قذيفة مّنْ تلك التي تقع هناك، يدعون الكتابة عن الضحايا، لكنهم يقرعون طبول الحرب، فإذا كنت جالساً في ناطحة سحاب وتشاهد سقوط قذيفة، كيف تعرف الجانب الذي أتت منه الرصاصة؟ والأكثر بؤساً أنهم يدعون لمقاطعة كل ما هو روسي، وكأن منع روسيا من المشاركة في معرض فرانكفورت لعام 2022 (وهذا وحده معيب) لا يكفي، تبنى البعض دعوة نادي القلم الأوكراني العالم إلى مقاطعة كل الأدب الروسي ودور النشر الروسية، بحجة أن العناصر التي تقلل من شأن أوكرانيا مازالت بارزة في الأدب الروسي، على الرغم من أن الألمان أنفسهم يعرفون أن لا أمة ولا سلطات في العالم حضرت الأدب الألماني إبان الحرب العالمية الثانية أثناء الاحتلال النازي لأوروبا وأمم أخرى، وكان العالم يعدون الاحتلال النازي أمراً طارئاً غريباً على الأمة الألمانية، إنها أمة ثقافية بها كتّاب عظماء، وهتلر هو المدمر، حتى اليوم يُشدد على التمييز بين تراث ألمانيا الثقافي، غوته وشيللر وهلدرن وغيرهم وبين هتلر، بل إن مفكرين مثل جان بول سارتر وميرلو بونتي وغيرهم لم يطالبوا بحضر أعمال الفيلسوف هايدجر على الرغم من تعاونه مع هتلر، وعلى الرغم من احتلال ألمانيا لفرنسا آنذاك، على العكس درسوه واستفادوا من فلسفته.
تلك هي مجرد بديهيات، لكن كما هو الأمر دائماً، حين يعلو صوت المدافع، تصمت للأسف العقول، وكأننا نعود إلى أجواء الحرب العالمية الأولى، حينما قرع أغلب المثقفين والمفكرين طبول الحرب، باستثناء قلة شجعان حكموا لغة العقل، وتواصلوا في ما بينهم، في الوقت التي كانت بلدانهم تحارب بعضها، وعلى الرغم من اتهامهم بالخيانة، ألبرت آينشتاين، ستيفان تزفايغ، رومان رولان وعدد قليل آخر، إنهم أولئك المثقفون الذي يعرفون، أن الثقافة الحقيقية يجب أن تنتشر، وإذا كانت هناك رسالة للثقافة، فهي الدعوة للسلام، ذلك هو الجانب المقدس فيها: علينا كمثقفين أن نجمع الناس معاً، بغض النظر عن العرق والأيديولوجية والدين.
أعرف أنه أمر صعب، في أوقات الحرب ينسى البعض أن "وظيفتهم" ككتّاب ومثقفين وعلماء هي ضبط النفس، وأنهم ساعدوا على وقف الكارثة، لا بد من التأكيد على أن العامل الإنساني يجب أن يوجه العمل في كلا الاتجاهين. وهذا ما يعلمنا إياه الأدب، بالتأكيد هذا هو الحل، وليس كما يُراد إقناعنا به في الغرب، إنهم على حق، إنهم الأخيار، والآخرون على خطأ، إنهم الأشرار.
صورة (يسألون قائد الأوركسترا الروسي "جيرجييف": هل أنت مع بوتين أم لا؟) وعودة إلى رواية بولغاكوف "الحرس الأبيض"، فإنها إذا تعلمنا شيئاً، فتعلمنا التالي: كيف أن الشعوب تصبح لعبة قوى مختلفة، وعلى وجه الخصوص تلك القوى التي لا تظهر للعلن في الحرب أو لا يمكن رؤيتها، وأن المعارك تدور رحاها على حساب السكان، وينتهي الأمر بالناس في تمشيط وإبادة بعضهم البعض أو في هروبهم إلى منافي الأرض الضيقة. إن نمطًا مثل هذا يفكر بطريقة "يا أبيض، يا أسود" سيكون دائماً خطأً جوهرياً، قاتلاً، لأنه يريد أن يقنعنا: "نحن هنا الخيرون، نتعامل بالخير، وهناك على الطرف الآخر الأشرار، يتعاملون بالسيئ"، وأنه لا يوجد سوى صواب أو خطأ، بغض النظر عما إذا كان الأمر يتعلق بالمناخ أو الجنس أو "العرق"، أتذكر كيف كانوا يسألونني في عام 2003 هل أنت مع الحرب أم لا؟، وكانت إجابتي الجامعة للأضداد، الرافضة لكل حرب، لا تعجبهم، كانوا يريدون الجواب بنعم أم لا، اليوم يسألون قائد الأوركسترا الروسي "جيرجييف"، والذي كان (حتى الأسبوع الماضي) يقود الفرقة السمفونية في ميونيخ، "هل أنت مع بوتين أم لا؟" قائد من الدرجة الأولى في العالم ويواجه سؤالًا بسيطًا: ولأنه لم يشأ أن يتشدق بالكلام الأمر الذي سيسهل له مواصلة حق العمل، أو لأنه لم يشأ التنازل عن كبريائه، صمت محترماً نفسه، طردوه من العمل. أية إهانة. إنه الجنون بعينه. 
الأمر نفسه يطول الأدب، وإذا فكرنا كما يفكر نادي القلم الأوكراني: ما هي الخطوة المنطقية التالية؟ فإنها ستعني حرق الأدب الروسي كله: حرق بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي وتورجينيف وتشيخوف... بل و... حرق غوغول في المقام الأول، غوغول الذي خرج "الأدب الروسي كله من معطفه، كما صرح ذات يوم صاحب "الجريمة والعقاب" دوستويفسكي، غوغول الأوكراني الأصل الذي كتب باللغة الروسية، وتلك هي وحدها تهمة بالخيانة له في عُرف بيان نادي القلم الأوكراني.
إنها هذه الهستيريا التي أعنيها والتي يتصاعد سعيرها يومياً في العالم وهي أكثر فتكاً من كل قنبلة ورصاصة وصاروخ.