الشعريَّة العراقيَّة بعيون لبنانيَّة

ثقافة 2022/03/11
...

  بيروت: جبار عودة الخطاط 
 
العراق والشعر صنوان لا يمكن الحديث عن أحدهما من دون الآخر.. هما توأمان سياميان ولدا من رحم المخاضات التي غالباً ما يراد لها أن توأد لكنها تبصر النور برغم عوامل العتمة، «العراق دائم التدفق الشعري حتى قيل إن الشعر عراقي»، هكذا قالها الشاعر محمد علي شمس الدين، وكأنه يضم صوته إلى صوت محمود درويش وهو يصدع في الفضاءات الكبرى «إن الشِّعْرَ يُولَدُ في العراقِ، فكُنْ عراقيّاً لتصبح شاعراً يا صاحبي»، وهكذا كان العراق الشاعر، أو الشعر العراقي رائداً خلّاقاً خصباً في معانقة القصيدة سواء كان ذلك في الشعر العمودي بحمولته المكرَّسة بالإرث أو الأطر الفنية، والبنى الجمالية المعروفة، حيث نزوع العراقي المثمر لروح التجديد والابتكار، أو بقصيدة التفعيلة التي أرسى السياب لبناتها الجمالية الأولى، أو بقصيدة النثر بكل ما تقترحه من مفاجآت صادمة، وانزياحات وتحرر عن الثابت والمتكلس، العراق والشعر كلاهما ثائر،  نافر متمردة، يأبى التدجين أو التطويع، فالحديث عن الشعر أو الشعرية العراقية هو حديث عن المتنبي، وأبي العلاء المعري، والبحتري، ومحمد مهدي الجواهري والرصافي وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، وسركون بولص، ويوسف الصائغ، وحسب الشيخ جعفر، وغيرهم من أساطين القصيدة العربية.. هنا نظرة بعين لبنانية مبدعة للشعرية العراقية بكل تجلياتها الخلابة، ولا بد من التنويه بأن إسهامة الشاعر الراحل فضل مخدر وصلت متأخرة إلى الجريدة قبيل يوم واحد من رحيله.
 
صداقات ثمينة
علاقة الشاعر محمد علي شمس الدين بالشعر في العراق كانت مبكرة، بحسب قوله، أن سببها كان السياب بداية، وحين زرت العراق لأول مرة في مربد البصرة 1974 كان من دواعي الزيارة الذهاب الى أماكن ذكرها بدر في أبي الخصيب. ومن البصرة انطلقت «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا» وعقدت صداقات ثمينة مع عبد الوهاب البياتي ويوسف الصائغ وعبد الأمير معلة وعبد الرحمن الطهمازي وعبد القادر الجنابي وبلند الحيدري.  ويضيف: مع البياتي وشائج متينة، وبيننا أربعون رسالة تبادلناها في مختلف مراحل حياته.  ويشير إلى أن علاقته بأجيال الشعر العراقي جيدة، أمثال جماعة كركوك فاضل العزاوي وسركون بولص ومؤيد الراوي ووليد جمعة حميد.  بالعموم يعتقد شمس الدين أنه على تماس مع هذا الشعر وهؤلاء الشعراء بلا انقطاع، كما أن آخر زيارة له لبغداد في 2020 بدعوة من اتحاد الأدباء والكتاب، حيث أقمت ندوة شعرية في مقر الاتحاد في بغداد وأمسية في الجامعة المستنصرية، ويضيف: لدي صداقات شعرية ثمينة مع شعراء عراقيين، وبالعموم ففي قلبي عرق عراقي نابض وأصوات شعراء العراق كجوقة عصافير في غابة نخيل. 
 
شعريَّة باذخة
أما الشاعرة حنان فرفور فتقول: إذا كان الحديث عن الشعر بحد ذاته كما الحديث عن مصطلح الشعرية، فخًا لذيذا على قول أنسي الحاج، وإذا كان العراق بما يمثله في الذاكرتين الحضارية والنفسية، معجن النوستالجيا، ومحرض النكوص الجامح إلى الجذور الإبداعية بفخامتها وغموضها وتفردها، فإن الحديث على الشعرية العراقية بعيون لبنانية، من دون أدنى شك سيأخذ هذا الطابع الانفعالي العاطفي مهما حاولنا أن ننحّيه وأن نتجرّد من سنين طويلة ظلت فيها القصيدة العراقية أمًّا حقيقية للتجريب والتجاوز، متكئة على عصور ضاربة في العراقة والأسطرة والتأريخ، وظلت الأبرز رغم ما مرت به من منحنيات ومحطات وصراعات أيديولوجية ومكانية وسياسية ودينية، ظلت بشعريتها الباذخة وعاطفتها السخية وبحزنها السامق وتراكيبها وقوتها التخييلية وتماسكها النصي وقدرتها اللافتة في التأثير في محيطها المحلي والعربي.
وتضيف: القصيدة العراقية، وأنا لا أفصل الحديث هنا على الشعرية وعلى النص لا يستطيع قارئ مدرك أن ينكر مركزيتها وسطوتها، فلا عجب أن ترى في لبنان او في مصر وفي الأردن وفي المغرب وغيرها من البلدان العربية من يكتب القصيدة العراقية بسماتها وأساليبها التي طبعتها وميزتها، خاصة بين فئة الشعراء الشباب وهذا الأمر ينسحب أيضا داخل الجغرافيا العراقية نفسها، فالتعايش الجيلي، وقوة المؤثرات في البيئة الواحدة أوقعت العديد من هؤلاء الشباب في شرك القصيدة المثال أو القصيدة المتشابهة، ففي بلد يتنفس فيه النخل الشعر وينمو فيه الشعراء رغم أنف الحرب والدمار والثورات والفساد والاغتراب والحرارة، وفي بلد يطفو على حضارة ونفط وقصائد يصبح احتراف الشعر على ما فيه من الغواية تحدّيا حقيقيا خاصة في ظل ذائقة جماهيرية صعبة الإرضاء وعالية التوقع، فيغدو التجاوز مغامرة واجبة وملحة..
 
تجربة فريدة
يبدو الحديث عن الشعرية العراقية عند الشاعر الدكتور فضل مخدر هو حديث عن جوهر الشعر وجذوره الممتدة في عمق بلاد النهرين، هذه البلاد التي يتنفس أبناؤها على اختلاف أعمارهم ومشاربهم الشعر، وهو طبع فيهم متأصل بحيث نجد أن الحديث عن الشعر من دون العراق يبدو ضرباً من المحال. 
العراق وعلى امتداد تأريخه، بنظر مخدر، شكَّل القطب الرئيس لضخ الروح في جسد القصيدة العربية والحديثة منها على وجه التحديد، فإلى شعراء العراق يعود الفضل في بلورة وإنضاج قصيدة الشعر الحر، برموزها السياب ونازك الملائكة والبياتي وغيرهم.  
لقد استطاع شعراء العراق، وفق تعبيره، برغم ما مر بهم من سنوات عجاف أن يحفروا بصماتهم المائزة في وجدان الشعر بإبداعهم الفذ، وقد تجرع الكثير منهم مكابدات المنفى والشتات، وكانت معاناتهم حافز إلهام وابتكار عظيم للفنّ الشعري. 
وزار مخدر العراق في شهر كانون الثاني عام 1919، وأضاف: عشت فيها جلسات شعرية ما زلت أحتفظ بطعمها اللذيذ حتى الآن، حيث احتفى بي الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق بجلسة احتضنتها قاعة الجواهري تحدثت فيها عن عميق صلتي بالشعر العراقي، وتخللتها مداخلات وقراءات حميمة.
وأشار إلى أن الشعرية العراقية برغم كل الصعاب وكل الظروف القاهرة التي مرت بها وبقاماتها تصاعدت بوتائر كبيرة وشكلت فنانات ساطعة يشار إلى مبدعيها بالبنان والامتنان، والكلام بسطور موجزة لا يمكن أن يلم بشيء من أطراف تجربتها الفريدة وإن كان بحدودها الدنيا.
 
ثيمة الحزن
أما الشاعرة رنا يتيم فتقول: من العراق انطلقت القصيدة العربية الحديثة مع ريادة تنافسيّة بين بدر شاكر السياب شاعر جيكور، وبين نازك الملائكة شاعرة قصيدة الكوليرا. أيضًا هناك ثالوث ينضمّ إلى هذا الثنائي هو بلند الحيدري العراقي الكردي، ولهذا الثلاثي السبق المبدع في قصيدة التفعيلة. 
فيما بعد، بحسب يتيم، برزت الكثير من الأصوات حتّى وصلنا إلى شعراء الستّينات، والذي تميّز منهم سركون بولص، وبرزت مشاغبات الجنون عند عبد القادر الجنابي، إلى جانب أصوات عديدة، وما بين المرحلتين لا ننسى عبد الوهّاب البيّاتي وبصمته كشاعر مَنفى. 
ومع الموجة الصدّاميّة والقمع والدكتاتورية، تضيف يتيم: برزت أصوات عراقيّة في المنفى، فصرنا نسمع القصيدة العراقيّة لكن من مقهى في السويد، أو دمشق، أو بيروت، وهذا لا يعيبها، بل خلق شيئا من التخصيب بروحية هذه القصيدة.
وأشارت إلى أنه يكفي العراق أنّ آخر شعراء العمودي بمعناه التاريخي المتين كان الجواهري، الذي يُشهد له في زمن الحداثة والنثر وإلغاء القافية والشعر العمودي، إنّه كان قامة فارضة نفسها على جميع المنابر العربيّة، والعالميّة بما فيه من عمق وقوّة إبداعيّة تُذكّرنا بالمتنبّي والحمداني وغيرهم من عباقرة الزمان. وفي التسعينات ازداد بقوّة وجود قصيدة النثر خصوصًا مع ظهور جيل جديد من الشعراء الشبّان الذين ابتعدوا في شعرهم عن الهمّ العام، وكتبوا قصيدتهم الخاصّة معتمدين على التفاصيل اليوميّة والحياتيّة وهو ما لاقى نقدًا من النقّاد الكلاسيكيّين، وفق تعبيرها.  
وترى يتيم أن الشعر بالمضمون العراقي هو تنضيد الحالة الكلاميّة إلى حالة جماليّة، والمرحلة العصيبة التي مرّ بها المجتمع العراقي تمثّل مرحلة النضج الشعري في تجربته الصعبة والخاصّة جدًّا. 
وقد بُني الشعر على الإيقاع ما بين ساكن ومتحرّك، وما زال النصّ الشعري يحمل ذلك الإيقاع، وحتى النثري منه يحمل إيقاعًا داخليًا وتفنّنًا، يحمله 
معه ذلك الإحساس العراقي والعزف المنفرد.