محمد يونس محمد
مفهوم الإنسان صراحة هو مفهوم غائم وغير واضح تماماً، ليس بحسب مقتضيات علم النفس فقط، بل لأن علم الاجتماع يتجاوزه إلى المحيط البشري، وكذلك لا يفصل بشكل مباشر بين الإنسان وذات الفرد البشري، فيشكل أفق الذات الكينونة، أما الإنسان فهو يشكل كينونة الكينونة، وهذا التفسير الفلسفي بعيد نسبياً عن الأفق العام، ونقصد به كمن لديه وعاء في داخله وعاء آخر بداخله وعاء ثالث، فالوعاء الأساس هو الذات البشرية للفرد، والثاني كينونته أما الثالث فهو إنسانه.
الطبيعي أن يكون الإنسان هو أصغر الأوعية وأقصاها عمقاً، ولكنه أكثرها أهمية للمعنى الحياتي وأكثرها جدوى له، والمسائل تكون مقلوبة هنا، إذ إن حجم الوعاء الأساس هو الأكبر، لكنه لا يمثل إلا حالة استيعاب لما هو عضوي، فشكل حياة الفرد يتناسب تماماً مع حجم الوعاء الأساس، بينما المعاني العميقة من الممكن أن يستوعبها الوعاء الأصغر الذي يهتم بالمعنى الإنساني للفرد، والقضايا المصيرية التي تحتاج قدراً من التضحية، والذي من الصعب أن تجده عند الفرد إذا لم تكن هناك فطرة سليمة، وتفسير الفطرة السليمة ضيقه المفهوم الديني العام، فسلامة الفطرة يعني النقاء الإنساني، وتلوث الفطرة يعني تضخم الذات والإنحراف نحوها والتحيز لها.. لكن المسألة في الجانب الإنساني أوسع من ذلك التحديد بكثير عندما تبقى المضامين هي التي تقرر.
ولكن هنا أحد الجوانب الحساسة لا بد أن يتوفر في الذات البشرية، وهو عنصر التضحية، فإن امتلكت الروح البشرية التي امتلكها جان فال جان بطل رواية – البؤساء – أعظم كيان مكتوب، ولو قدر لنا أن نعثر عليه فتقبيل يده أمر نبيل.
البحث عن الإنسان صراحة أصبح مستحيلاً في وجودنا البشري الذي نعيش، رغم أننا نلمس له أثرا هنا وهناك، وصراحة هو آصرة الصراع ضد الشرور بكل معانيها، وعلى وجه الخصوص شرور الايدولوجيات والدين والذات المتضخمة، وتلك العناصر الثلاثة هي الأشد مع السياقات التاريخية التي ترفض الاستثناء وتتعارض معه، وإذا ابتهجنا وشعرنا بأن هناك أملا، وإذا نقابل الآخرين حتى الخصوم بوجه صبوح فإننا بذلك نحفز إنساننا وتتسع مساحة داخلنا، وذلك أحد اشتراطات علم النفس الإنساني، أو بشكل أصح المعرفة النفسية الإنسانية، أو الضمير الحي الفاعل فكرياً، ولا يهم هنا المفاهيم بقدر الموقف الإنساني وإثباته في السلوك البشري.
المواقف موجودة ولكننا لا نهتم بالكم مثلما نهتم بوجودها في الحياة، مثلما هي موجودة في السينما والأدب الروائي والقصصي والشعري، ودعم السينما والأدب يشكل أيضا أهمية في الانعكاسات والتفسيرات المتخيلة التي ترتفع من منسوب المعنى الإنساني.. وهذا مهم للتأثير على تضخم الذات، لأنه أشبه بمعالجة روحية، كما أن صدم البشر أدبيا أو سينمائياً يشكل أهمية في إعادة نسب من المعنى الأخلاقي الذي انحسر إلى حد كبير.
تشكل ترجمة الإنسان في ظروف تضخم الأنا الباسلة شخصياً والفاشلة إنسانيا، وكما لعبة الروليت الروسي، فأما نقتل الإنسان في داخلنا أو يتعذر ذلك علينا، فنفوت الفرصة على أنفسنا، ونكسب الرهان لصالح جوهرنا.