الصوتُ، الكتابُ، الصورةُ

ثقافة 2022/03/11
...

  محمد صابر عبيد
تجتمع هذه الأدوات التواصليّة «الصوت، الكتاب، الصورة» في سياق نظري واحد كي تمثل العلاقة الوطيدة الضروريّة بين المرسِل والمرسل إليه، بوصفها حلقة الوصل بينهما لأنّ العمليّة التواصليّة تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسيّة هي: المرسل والمرسل إليه والرسالة، وتحتاج الرسالة -كما هو معروف- إلى أداة توصيل تحملها على وفق سياقات وتقاليد وأساليب متعددة، وتعتمد فرصة نجاح التوصيل على كفاءة الأداة وديناميّتها وحراكها النوعيّ في التوسط الثقافيّ بين طرفي المعادلة على النحو الذي تصل الرسالة فيه كاملة ومكتملة.
تُعدّ هذه الوسائط الثلاثة «الصوت، الكتاب، الصورة» الأكثر شهرة وتداولاً وحضوراً وتأثيراً في هذا الميدان بقوّةِ تواصلٍ كبيرةٍ تكاد تختصر نشاطات الإنسان السرديّة في الوجود بعامّة، إذ لا يمكن لأيّ إنسان على وجه البسيطة الاستغناء عن أحد أدوات السرد هذه مهما حاول عزلها من دائرة انشغالاته، أو إهمالها، أو تجاهلها، والإنسان بطبيعته الوجدانيّة لا يسعه التنازل عن السرد في شكل من أشكاله المعروفة قطعاً ولأي سبب كان.
يهيمن السرد الشفاهيّ أولاً على العقل الإنسانيّ في العالم من دون وسائط أو مقدّمات حيث يكون بحاجة إلى قوّة سمعيّة في أعلى درجات الانتباه، ولا يوجد إنسان في الكون لا يملك هذه القدرة السرديّة ولا يمارسها باستمرار على نحو أو آخر، فهي الرغبة الأولى لديه حين يريد أن يعبّر عمّا يريد ولا يرتاح قبل أن يوصل رسالته السرديّة إلى مقصدها، وهو يتطلّع إلى أن يكون الآخر «المُرسَل إليه» في درجة عالية من درجات إتقان ثقافة الإصغاء، كي يتحقّق الهدف المرجو من هذا السرد الذي يحتاج إلى توافق شفاهيّ سمعيّ بين الطرَفَين، مثلما يحتاج إلى حضور فعليّ يتمكّن بوساطته إيصال الصوت بأقلّ الكلام.
يقف السرد الكتابيّ نقيضاً كاملاً للسرد الشفاهيّ على مستوى الثقافة والرؤية والمنهج وطبقة التحضّر، لأنّه بحاجة إلى قوّة ذهنيّة كليّة ومتكاملة وحيويّة تعمل بطريقة حضاريّة هادئة ومناسبة، وتفترض في منطقة التلقّي حضور ثقافة القراءة التي يكون بوسعها قراءة هذا السرد والتأمّل فيه وتأويله، على النحو يستجيب لفلسفة الكتابة وأسلوبيّتها والأطروحة التي يحملها النصّ بما ينطوي عليه من تجربة إنسانيّة كثيفة وثريّة، تسهم في بناء العلاقة المتوقَّعَة بين النصّ والقارئ، والكتابة والقراءة، والإبداع والتلقّي، ضمن رؤية سرديّة تحويها الكتابة كي تؤدّي وظيفة ثقافيّة وإبداعيّة معيّنة لها شروطها وتقاليدها وظروفها.
يجنح السرد الفيلميّ نحو منطقة أخرى من مناطق السرد ذات القوة التداوليّة الواسعة في المجتمعات المدنيّة المتحضّرة، وهذا النوع السرديّ بحاجة إلى قوّة بَصَريّة شديدة المتابعة والاحتواء والاندماج والتفاعل كي تتمكّن من التفاعل والاستجابة، ويحتاج تلقّي السرد الفيلميّ إلى ثقافة الفُرجة القائمة على خبرة بَصَريّة تعرف كيف تتلقّى هذا الخطاب السرديّ، وهو نوع سرديّ متقدّم على صعيد حضاريّ يعبّر عن بلوغ المجتمع مرحلة جديدة من التواصل، إذ يستحيل وجود سينما في مجتمع متخلّف لا يدرك قيمة هذا المعطى الحضاريّ الثقافيّ وتجلّياته المعرفية، فهو قرين التمدّن والتحضّر ووصول الإنسان إلى مرحلة من الاكتفاء الخَدَميّ التقليديّ كي يعبرها إلى مرحلة الترف الثقافيّ المناسب.
يؤدّي الصوت بوصفه أداة تواصليّة سرديّة دوراً مشاركاً في بقيّة أنواع السرود المختلفة إذ يحضر بأشكال وصيغ عديدة فيها، فقد بدأت عمليات تحويل النصّ المكتوب إلى نصّ صوتيّ مرافق للكتابة يضاعف من قدرات تلقّيه والاستمتاع به، فضلاً على أنّ السرد الفيلميّ أو السرد الدراميّ المسرحيّ يقوم أساساً على فعاليّة الصوت بدرجاته المختلفة، فالحكاية التي تُروى شفاهاً في المرحلة الشفاهيّة تتحوّل إلى نصّ مكتوب حين تكون عنصراً من عناصر التشكيل القصصيّ أو الروائيّ سرديّاً، وتتحوّل إلى مشهد تصويريّ تمثيليّ في السينما أو التلفاز حين تدخل عليها تقانات فيلميّة تجعلها صالحة للعرض.
تعمل الأداة الصوتيّة بوساطة الفم والحنجرة على تكييف الحكاية الواجب توصيلها إلى السامع بما يناسب طبيعة الحكاية وطبيعة السامع في آن، وفي هذه الحالة تسعى الأداة إلى استثمار ممكناتها كلّها في أعلى درجات الكفاءة لإنجاز عمليّة التوصيل، وهي عمليّة مرهونة بزمنٍ صوتيٍّ مباشرٍ ينبغي أن يتوفّر على مستوى عالٍ من قوّة الحجاج والإقناع، بعكس الأداة الكتابيّة البعيدة عن أيّ ارتهانات معيّنة، وتمنح المتلقّي حريّة كبيرة في عمليّة الاستقبال والتلقّي والحوار مع النصّ، لأنّها تفترض فعاليّة قرائيّة تقوم على الهدوء والتأمّل والحفر داخل طبقات المقروء على نحو يدفع باتجاه الكشف وتشييد الحلم، أمّا الأداة الصوريّة فهي تجمع في آليّة تلقّيها مظاهر الاستقبال كلّها للارتقاء إلى منصّة فهم السرد الفيلميّ واستيعاب أطروحته، لأنّها بحاجة ماسّة إلى سرعة التقاط وتحليل من جهة؛ وإلى تمثّل الرؤية المنبثقة عن التشكيل الصوريّ والتفاعل معها من جهة أخرى.
تبقى الحكاية هي جوهر النصّ السرديّ في مرحلته الشفويّة، ومرحلته الكتابيّة، ومرحلته الصوريّة، على الرغم من أنّها في كلّ مرحلة من هذه المراحل تأخذ سمتاً خاصّاً وتنطوي على حساسيّة خاصّة، لذا ينبغي التركيز على الجانب الحكائيّ في كلّ أنموذج من نماذج السرد التقليديّة هذه على مستوى التلقّي، بوصفها العنصر المركزيّ للسرد مهما كان نوعه وشكله وطبيعته ودرجة صلته بالتعبير والتشكيل معاً.