فن الحذف

ثقافة 2022/03/13
...

نزار عبد الستار
لكل جملة سردية شبكة مسارات وأوعية، والكتاب العظماء وحدهم من يعرف أن هذه الجملة الافتتاحية (س) ستكبر لتصبح فصلاً سلساً، أما الجملة (ص) فستتخثر بعد صفحات قليلة والنتيجة: قصة سيئة أو رواية مفككة. 
ثمة ضرورة ملحة لممارسة الفن في روايات عدة، فأغلب الكتاب لا يتجهزون مع الرواية الأولى بالقوة العقلية التشكيلية، وهؤلاء يحتاجون في ما بعد إلى تدريب العقل والحواس للوصول إلى لغة شديدة الحساسية ومختزلة في سعيهم لكتابة عمل جيد.
جماعة التيار الرومانسي الفرنسي والإنكليزي هم من أبرع الأدباء في التنبوء بالطرق المسدودة التي تخلقها الجملة السيئة، ولهؤلاء الفضل الأكبر في فكرة الحبكة الدرامية الواحدة التي عرفت لاحقا بالنوفيلا. 
إنَّ العظماء: جول فيرن وروبرت ستيفنسون والسير والتر سكوت، كانوا أساتذة حبك وحذف وتنمية وهم يختلفون عن كتاب الروايات البوليسية الذين يستعملون قالباً واحداً وشخصية أبدية مثل ارسين لوبين وشارلوك هولمز وهيركيول بوارو. إن الحبكة الدرامية هي الأساس في مسألة الحاجة إلى الرشاقة اللغوية والسلاسة التعبيرية.
يصف غابرييل غارسيا ماركيز أسلوب ويليام فوكنر بأنه يشبه إطلاق قطيع من الخراف في محل لبيع الكريستال لأنه لا يمتلك النظام العضوي المطلوب للكتابة، وهذا الأمر في منتهى الواقعية لأن فوكنر لا يعرف الحبكة الدرامية، ولا يعتقد أنها مفيدة في التدريب الكتابي. ثمة مخاطرات في التحديث الذي لحق بالرواية وتحديدا مع البولندي جوزيف كونراد الذي أدخل مفهوم المعمار والبنية العضوية ووظف الحواس في تشكيل المشهد الوصفي. لا شك أن الكثير مما أوجده التيار الرومانسي كان ملهما بشكل كبير للمطورين الذين اشتغلوا على النوفيلا إلا أن البرود العاطفي كان صبغة معيبة للنصف الأول من القرن العشرين الذي كثرت فيه الخراف الطليقة.
هناك من يعتقد أن رواية جزيرة الكنز للاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون ستكون باهتة ومضحكة قياساً بقلب الظلام أو الشيخ والبحر، والحقيقة أن لاشيء يعطي القيمة الكبرى للعمل الأدبي سوى قوة الخيال والقدرة الفائقة على الاختصار وحذف الجمل العقيمة التي تدخل النص كالحشائش الضارة. 
معظم الكتاب الكبار يفكرون بما عليهم كتابته بعد هذا الإرث الأدبي العظيم المتجمع منذ قرون وهم قطعا لا يفكرون بما يستطيعون كتابته بسهولة احترافية من روايات تنال حب القراء، لذلك براعة الخيال والقدرة الفائقة على الصقل هما جمال الرواية.