تداخل الأجناس الأدبيَّة بحث عن الذات أم الشهرة المجانيَّة؟

ثقافة 2022/03/13
...

 ميثم الخزرجي
 
من المستجدات التي أوجزها عصر ما بعد الحداثة تداخل الأجناس الأدبية في ما بينها وتمريرها على أنها تثاقف أدبي جائز لا يقلل من شأن النص أو يحط من قيمته الفنية، فشعرية القص أو سردية الشعر لها مبرراتها شريطة أن تكون خاضعة لممكنات النص الأدبي ومحتفظة بالمعايير والمسلّمات التي تشدّ من أزره وتضيء قدره وتعضد من وهجه. 
بودي أن أسلط الضوء على مخاض الشاعر أو السارد وما يسوّره من أشكال شعرية كانت أم سردية لها مجدياتها وفضاءاتها الواضحة، بطبيعة الحال ثمة سلطة نسقية تجرّ الأديب نحو الكتابة متخذاً من الشعر أو السرد وسيلة للتصريح بكل ما يعنيه أو يخص مجتمعه ليسكبه بمتن أدبي يجده هو الطريق الأوفر حظاً للتعبير عن كمّ الأزمات والنكبات أو ربما مظاهر الفرح التي تصاحبه.. هنا نأتي إلى هاجس الأديب وميوله نحو الشكل الأدبي الذي يتبناه، فكثيراً منا يجد أن القصيدة العمودية لها طابعها التعبوي والخطابي كونها قصيدة منبرية، وأن الشكلين اللذين جاءا بعدها كالتفعيلة وقصيدة النثر لهما منافذهما الفكرية المشرعة ومضامينها الجدلية المستعرة، كونهما خارجين عن المألوف الكلاسيكي. لكني أتساءل هل أن إمكانية الشاعر تقف حائلاً أمام الوزن والقافية لتمرير رؤاه ومتبنياته داخل النص - وهذا ليس دفاعاً عن العمود أو دعوة الشعراء لإبراز مقدرتهم الشعرية من خلال هذا الشكل بقدر ما أجدها حجة واهية اصطنعها بعض المتعصبين لشكلٍ معين ليوهموا الآخرين، بأنها من ضمن مخرجات الحداثة، ومثالنا المتوهّج المعري الذي ضَمَّنَ عموده الكلاسيكي تساؤلات فلسفية محضة لها استشرافاتها داخل النص ليكون معناه حاضراً في ما بيننا.. ومن باب إنصاف الشعر، هل يصح أن نطلق على المعري شاعراً كلاسيكياً كونه كبَّل نَصَّه بإيقاع واحد ونترك الفضاء الجدلي الذي منحنا إيّاه؟، أنا هنا ازاء اجتراح لغة واستحداثات هموم ومصائر إنسانية مغايرة لها أبعادها الفلسفية وغير معني بشكلٍ أدبي له لوازمه وضروراته، المسألة الأهم وما يسود مشهدنا الثقافي بعموميته، هل بالضرورة أن يتورّط الشاعر بكتابة الأشكال الشعرية ليواكب الموجة وإن كتبها هل يبدع ويجد نفسه في جميعها؟، كثيراً من الشعراء العمودين يكتبون قصيدة النثر، لكن بذلك الدافع اللغوي المعجمي بعيدا عن انزياح الصورة وبعدها الجمالي، فضلا عن أنهم يضعون نصب أعينهم هاجس الجمهور ومدى تفاعله معهم، وكأنه يلوح لهم بالتبجيل والتمجيد متناسين أنهم قبالة نصٍّ كونيٍّ له مدياته المختلفة، ليكتب النصّ بسياق معين ويكون نفسه وهاجسه بل وطريقة طرحه بسياق آخر، وكأنهم في حالة رهان لبيان مقدرتهم على كتابة شكل أدبي كهذا. 
على الرغم من اللبس الحاصل في الأسلوب والماهية –وأعني- هيأة الشكل العامة ومدى تعاضده واتساقه بالمحتوى بعيداً عن الإشادة أو التنكيل أو تفضيل أحدهم على الآخر، وكذلك الحال في السرد فإنني أجد أن كثيراً من المفاهيم سوّقت لنا دونما عناية أو إعطاء براهين على صحتها. فثمة من يقول إن هذا العصر هو عصر الرواية علماً أن الروائي الاميركي أرنست همينغواي قد أبدى رأياً في مقال له عام 1961 بخصوص إشاعة وترويج الرواية وعن إسفاف محتواها ومجانيتها المفرطة. ولا أعرف هل هي موضة احتلت ذهن الأديب الحالي ليدخل في معمعة الأشكال الأدبية عنوة ويترك وجدانه معلقاً عند الشكل الذي أثرى حضوره وأضاء وجوده بحجة ملاحقة الحداثة أو إبراز هوية مغايرة له وإن لم يتمكن من تقديم الجيد تبعاً لضآلة عدته الفنية. فكثيرا من كتاب القصة اتجهوا لكتابة الرواية على أنها المتن الأكثر بهاءً من بين أشكال السرد وكأنهم يبحثون عن فرصة لتمجيد ذواتهم بعيداً عن اطلاعهم المعرفي أو مدى مقبولية مادتهم الأدبية، ظانين أن هناك حالة من الإثارة التي تصاحب شكلا أدبياً من دون آخر أو لعل ما يشي من عملية تسويق أو ترويج لإبراز هويتهم الأدبية، وأنا لا أقصد الجميع بالطبعن فمنهم من نجح نجاحاً مهماً، لكني أنظر إلى المشهد بعموميته وما تصاحبه من أزمات 
كثيرة. 
من هنا، هل يتوجب على الأديب إن كان شاعراً أو سارداً أن يكتب في الأشكال الأدبية كافة؟، وهو ما نشاهده في المشهد الثقافي الحالي، إذ تطالعنا حزمة من النعوت التي ألصقت به، ولو افترضنا أنه أجاز لنفسه التصريح بما لديه، هل يشكل علامة مضيئة لها سندها الرصين الذي نحتفي به، خلاصة العرض، ما هي المسببات التي دفعت الأديب إلى ذلك، هل للبحث عن ذاته ووجوده أم البحث عن الشهرة بمقاصدها المجانية؟.