شعريَّة الانهمام بالذات

ثقافة 2022/03/13
...

 قيس عمر
 
يعدُّ مفهوم "الانهمام بالذات" من المفاهيم التي تدخل، في مجال "تقنيات الذات" ويرتبط بالسلوك البشري وإشكالياته، لا سيما في مشغل ميشيل فوكو، فهو يرتبط بطبيعة دراساته "للجنسانية" بيد أن هذا المفهوم قد بدت ملامحه الأولى، مع سقراط وصولاً إلى هيدجر ثم فوكو، إذ أشار سقراط إلى أن "التركيز على الذات ليس تعبيراً أنانياً بل هو انهمام بالآخرين في نفس الآن". فالانهمام السقراطي هو موجات نفسية داخلية مشروعة، ترتد داخلياً في ذات الفرد، ثم تنعكس على المجتمع بكليته، وهذا الانعكاس قد يتَّخذ صوراً بلاغية كالشعر، أو صوراً معرفية كالاشتغال الفلسفي الأبيقوري، أوصوراً بيداغوجية/ تربوية. 
ولعلَّ صور ودلالات الانهمام بالذات، تخترق النصوص الفلسفية، من أفلاطون إلى الرواقيين، والابيقوريين، والفلسفة المعاصرة، وكأن المشروع الفلسفي الإنساني يمنح هذا التمركز مشروعية البقاء، وذلك بسبب من طبيعة الذات وانعكاسها على المجتمع، فالذات الباحثة عن الحقيقة، تنطلق بدئياً من الانهمام الذاتي المعرفي، وهي بهذا تنطلق من مشروع فردي داخلي، ثم تحاول نقل هذا الانهمام للمجتمع، على المستوى المعرفي والايتيقي، فالانهمام الايتيقي هو الخطوة الأولى، التي تقود الذات نحو الانهمام الروحيّ، والذي يتخذ بحسب فوكو أشكالاً وصوراً متنوعة منها (التطهير/ الزهد/ الاعتكاف/ التنسك/ الصوم) هذه الانهمامات في عمقها الدلالي، تحيل لانهمام روحيّ ولد نتيجة تمركز، وانهمام بالذات التي قطعت شوطاً ايتيقيا، وصارت جاهزة للتحول، من خطاب القيم نحو خطاب الروح، وهي بهذا على المستوى العميق، تحاول تشييد تواصل وتحقيق، ضرب من التناغم، مع مطالب الحياة الفردية، وإلزامات القواعد والأعراف الاجتماعية، بحثاً عن حياة فاضلة ورخيّة، تسعى لبناء معمار انهمامي بالذات، قائم على وجود روحيّ يساعد الفرد ويمنحه مشروعية حجاجية، لتحويل كل خصائص الفرادة الذاتية، التي كانت قابعة في فضاء العزلة، وتحويلها لفضاء عمومي قابل للتعميم، والاستنساخ، والشيوع، فالانهمام كمشروع فلسفي في النهاية يهدف لبناء فلسفة الإيمان الروحيّ ومدّها بقوة حجاجية، كذلك على مستوى الانهمام الطبيّ، فالتنويعات العلاجية والتشخيصية المتعلقة بالأمراض العضوية، نابعة من إرغامات الانهمام بالجسد المقابل للروح، وإذا كانت هذه بعض تمثلات الانهمام بالذات على مستوى الروح والجسد، فإن الانهمام البلاغي بالذات، يقدم لنا صوراً أخرى من هذا الانهمام، ويكشف عن ضروب من تصوير الذات على مستوى الأدب، لا سيما في الشعر، فتظهر لنا الذات الشاعرة، في الخطاب الشعريّ، بشكل مكبر ومبالغ فيه، تحت جُنح الغنائية/ الذاتية، متخذة من ستار البلاغة والتصوير الفنيّ، ذريعة للعبور نحو المتلقي، فطبيعة حضور الذات الشعريّة، يتخذ وضعاً تاريخياً في ظهوره وتجلياته، التي تنعكس في مرآة الانهمام اللغوي، ويتجلى هذا عبر حيل بلاغية، يمكن تشخيصها والإمساك بها وتشريحها، فالضمير (أنا) يعد حجر زاوية مكين في الخطاب الشعري، وهذه الأنا هي شكل من أشكال الانهمام بالذات على المستوى البلاغي، والذي يطوي تحته، التجربة الفردية للشاعر، وهذه التجربة الانهمامية تحاول نقل تجربتها، من فضاء العزلة والكمون، إلى فضاء التعميم والشيوع، المستتر بالأقنعة البلاغية، ولعل هذا التمثيل للانهمام بالذات، يجد مسوغاته لدى ميشيل فوكو، انطلاقاً من فهمه للبلاغة فهو يرى أن البلاغة "هي تقنية قول الأشياء دون أن تحدد العلاقة، بين المتكلم وما يقوله، وهي تقنية تسمح لمن يتكلم، بقول أشياء ليس من الضروري أن يعتقد بها، لكنها تنتج آثاراً بالنسبة للمتلقي" وبحسب فوكو فإن طبيعة التعبير عن الانهمام بالذات تنأى، عن قول الحقيقة بشكل خطّيّ مباشر، ذلك أن الشاعر أو الكاتب بعامة، يهدف للتأثير على المتلقي، عبر هذه الحيل البلاغية وسلطتها الجمالية، التي تمرر الانهمام بالذات، وتسوّغٌ غنائية الذات القابعة، في الظل والعزلة، وتمنحها مشروعية التأثير، ونقل هذا الانهمام من حيزه الخاص إلى حيزه العمومي. من جانب آخر يمنح فوكو مشروعية للانهمام الذاتي على المستوى البلاغي/ الجمالي، إذ إنه يرى أن الاهتمام/ الانهماك/ الانهمام بالذات، أفضل وأجدى من الاهتمام والتركيز على المصابيح، والمنازل، وكل ما هو خارج الذات، بوصفه موضوعاً قابلاً للانهمام.
إنَّ طبيعة الانهمام وتجلياته الخطابية في المشاغل الشعرية، تأخذ صوراً وتنويعات بلاغية كثيرة، لا يمكن حصرها وتحديدها، ذلك أن عملية التذويت الشعري تتخذ من سلطة البلاغة وممكناتها، جسراً للعبور نحو المتلقي والتأثير عليه، فالانهمام البلاغي يهدف للغوص عميقا، في الذات الشعريّة المثقلة بالهموم، والأحزان، والآمال، والأحلام، والأمنيات، ولعل هذه الذات وتنويعاتها الفرعية، الآتية من العُمق الداخلي للشاعر، مشبعة بحمولة الآلام الكبيرة، وهذه التنويعات تنعكس في مرآة الشاعر وتذويتاته الكسيرة، وتقدم للمتلقي ضرباً من الحيوات الشعرية الممزعة الأوصال، وتنقل للمتلقي إحساس الذات الشاعرة بالعالم، فطبيعة القوْل الشعريّ على المستوى المعرفي، لا تهتم بالبنية المنطقية التتابعية السببية، إنما تهتم بالذات ومشغلها الانهمامي، والذي يتمظهر بشكل تقني/ بلاغيّ/ جماليّ، وإذا كان لا بد من تمثيل دقيق لشعرية الانهمام في المشاغل الشعرية بوصفه خطاباً ذاتياً/ تقنياً واضحاً يمكن الإمساك بحدوده وتجلياته البلاغية، فإن الــ (أنا) الشعريّة وتذويتاتها الداخلية والخارجية، خير دليل على هذا، فهذه الـ (أنا) التي تشكّل صوتاً طاغياً وحاضراً بقوة في الشّعر بعامة، تبيح لنفسها، مشروعية القول وفق كيفية بلاغية، تجنح، وتبتعد، وتنأى، عن قول الحقيقة، فالقول الشعريّ لا يهدف لتقديم حقيقة، وإنما يهدف للتأثير في المتلقي بشكل جمالي، ولعل الهدف الكامن خلف البنية القولية، للقول الشعريّ وصوغه البلاغي، هو جزء أساس من الانهمام بالذات، وحجر زاويته المكين، فالشاعر وأناه الممزّعة، تعيد تشكيل العالم في مرآتها، على وفق انعكاس ذاتي لصورة العالم في ذات الشاعر، وهنا علينا الانتباه إلى الطبيعة الميتافيزيقية، لهذا التذويت للعالم في مرآة الشاعر.