وجدان الليل.. وجدان النّهار قراءةٌ في مقطوعة «المتنبِّي يخرج من مصر» لخالد كاكي

ثقافة 2022/03/13
...

 بهاء بن نوار
إن من يتأمل تجربة المبدع العراقيّ خالد كاكي يلاحظ أمرين مفصليين، أولهما: تعدّد مواهبه الفنّيّة، إذ انفتح على مجالات إبداعية كثيرة، وتفوق فيها جميعا: الرّسم/ النحت/ الغرافيك/ الشعر/ الترجمة/ القصة/ الموسيقى: عزفا وتأليفا/ الرواية/ الغناء/ التمثيل: مسرحيّا وسينمائيّا.  وثانيهما: حضور الموسيقى – التي تعد ذروة الفنون كلها – وتدفّقها في أغلب أعماله، مما يشير إلى أهميّة العنصر الزمنيّ، ودوره الأكبر في تشكيل جوهر رؤيته الفنيّة.
وفي هذه القراءة، سأقف مع مقطوعته: "المتنبّي يغادر مصر" Al Mutanabbi leaves Egypt التي ألّفها سنة 2003، وصدرت ضمن ألبومه الموسيقيّ: "كلمات"Words مدريد- 2009.
  وأوّل ما يلفت الانتباهَ فيها موضوعُها الإشكاليُّ الذي يتناول واحدا من أشدّ المواقف الوجوديّة عنفا ودراميّةً في حياة المتنبي: موقف خروجه من مصر، بعد عمرٍ مليءٍ بالخيبات، والأزمات الفادحة، وعبوره الصحراءَ إلى فُسحٍ مكانيّةٍ أخرى، قد تأتي امتدادا لخيبات الماضي والحاضر، أو قد تحمل معها بعضَ الأمل الممكن، القادم.
ولعلّ أهمَّ الأسئلة التي تُطرَح في هذا السياق، هي: كيف لفنِّ الموسيقى وهو الأكثر تجريدا وانفلاتا من قيد المحاكاة أن يحاكي مأزق المتنبّي الوجوديّ هذا؟ كيف سيتمكّن "كاكي" من احتواء هذه الأزمة المعقّدة في قطعةٍ موسيقيّةٍ مركّزةٍ، لا تجاوز الخمس دقائق ونصفا، هل يمكن حقّا لهذه الدقائق الخمس أن تتغلغل في تفاصيل روحٍ عميقةٍ وغامضةٍ كروحِ المتنبّي؟ 
 إنّه لتحدٍّ كبيرٌ، سأحاول استجلاءه بإجراء مسحٍ سريعٍ لمكوّنات هذه القطعة، التي تبدأ بصوتٍ طبيعيٍّ هو صوتُ صفير الرّيح، الذي يأتي متصدِّرا المشهدَ، موحيا بوحشةِ الليل، وصمت الصحراء، اللذيْن نستشفّهما من الزمن المرجعيّ لحدَث الخروج، الذي كان ليلة العيد؛ ليلة انشغال أهل مصر باستقبال هذه المناسبة والاحتفاء بها. 
وكأنّه يُترجم وحشةَ المتنبّي، وقلقَه الإنسانيَّ المزمِن: (على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي/     أوجِّهُها جنوبا أو شمالا).
 يتلو هذه المقدّمة خمسُ حركاتٍ، قصيرةٍ، متناغمةٍ، يتناوب فيها وجعُ المتنبّي بين الحضور والخفاء؛ بين الانكشاف الطارئ الذي حتّمه وضعُه النفسيُّ الصّعب، وبين المكابرة التي جُبِل عليها، وأمعن من خلالها في تغطية أحزانه بما اعتاده من أحلامٍ جامحةٍ، أو تضخيمٍ للذّات.  تأتي الحالة الأولى لتشكّل "وجدان اللّيل" وزمنه الذي يُعدّ الزمنَ الوجوديَّ الأمثل؛ تنفرد فيه الذاتُ، وتتعرّى من جميع الادّعاءات والأصباغ، وتأتي الحالُ الثانيةُ لتمثّل "وجدان النهار" الذي يمثّل زمنَ الذات الزائف، زمن التجمّل، والأقنعة، وكلاهما رمزيّان، يتعلّقان بتقلّباتِ نفس الشاعر وحدها، لا بتقلّبات الزمن الخارجيّ. وهو ما يمكن استجلاؤه فيما يأتي: 
- الحركة الأولى: تأتي مفردةَ الأصوات، حزينة الإيقاع، موزّعةً بين أربع نغماتٍ، اشتركت فيها خمسُ آلاتٍ، تراوحت بين أنين التشيلّو، ووعيد البوق مشتبكا مع زمجرة الطبل، وبسمةِ القانون، وزفرةِ النّاي، وقد شكّلت ضرباتُ الطبلِ الوجهَ الخلفيَّ من النغمتيْن الأخيرتيْن، ممّا يوحي بصراعٍ داخليٍّ مكتومٍ بين انفعاليْ: الحزن، والغضب، الملازميْن دوما لنفس المتنبّي، والمنبثّيْن في أغلب أشعاره.  ولعلّ هذه الأبيات المتفرّقة تُعادل هذه النغمة شعريّا:
التشيلّو: وأسري في ظلامِ اللّيلِ وحدي/ كأنّي منه في قمرٍ منير.
البوق/ الطبل: أطاعِنُ خيلا من فوارسِها الدّهرُ/ وحيدا، وما قولي كذا، ومعي الصّبرُ.
القانون/الطبل: تمرّستُ بالآفاتِ حتّى تركتُها/ تقول أمات الموتُ أم ذُعِر الذعرُ.
النّاي/ الطبل: وحيدٌ من الخلّان في كلِّ بلدةٍ/ إذا عظم المطلوبُ قلَّ المساعِدُ.
هكذا يبدو الوجهُ الليليُّ الأوّلُ من روح المتنبّي ووجدانه؛ "وجه العزلة" والانفراد بأحزان الذات، وآهاتها، وهو ما يعادل مسرحيّا مونولوجا، محتدِما، تنشطر معه الذاتُ الكبرى المأزومةُ وتتشظّى إلى ذواتٍ صغيرةٍ، متآلِفةٍ – كما في هذا الأنموذج – أو متناقضة.  
الحركة الثانية: تأتي أوركستراليّةً، متصاعدةَ الإيقاع، يبدو معها المتنبّي وكأنّه يحاول لملمة أجزاء نفسه التي تناثرت في الحركة الأولى، وتجميلَها بقناعٍ حماسيٍّ، يتلبّس بطاقات الفخر، ويحاول تبديدَ ما بثّته الحركة الأولى من حزنٍ وانكسارٍ، هما في اعتقاد الشاعر فضيحةٌ لا بدّ أن تُدفَن، وعارٌ لا يجوز أن يُعلَن، وكأنّي به هنا في غاية الخجل من عريه الروحيّ الأول، فينتفض مسرعا ليسبغ على ذاته فائضا من الثياب، والأردية الثقيلة، وهو ما يعادل شعريّا ما تفيض به قصائدُه من نأيٍ بالذاتِ، وفصلٍ لها عن كينونة الآخرين، وذواتهم: (وربّما أُشهِد الطعامَ معي/ مَنْ لا يساوي الأكلَ الذي أكلَهْ/ وما أنا منهمُ بالعيش فيهمْ/ ولكنْ معدنُ الذهب الرّغامُ) وهو القناع النهاريُّ الأوّل، ويمكن أن أسمّيه: "قناع الإنكار".
الحركة الثالثة: يبدو أنّ الثيابَ والأقنعةً التي حاول بها المتنبّي سترَ ضعفه الإنسانيّ ثقيلةٌ جدّا، ولا تطاق، وفي هذا المقطع تسقط كلّها، ويغيمُ الضوءُ الخادعُ الذي باغتنا في المقطع السابق، ليظهر مجدّدا الوجهُ الليليُّ الأصيل، الذي يتجلّى من خلال صوتيْن مفرديْن، متحاوريْن، صوتَيْ: البيانو، والناي، اللذيْن يختصران معاناته، وحداده وقد استنفد أغلب إمكانات وجوده، وضيّع عمرَه تائها، مرتحِلا، من دون أن يبلغ بعضَ ما خطّط له، وتمنّاه. 
وكأنّ البيانو يصرخ ملتاعا: (ولوْ أنِّي حُسِدتُ على نفيسٍ/ لَجُدتُ به لذي الجَدِّ العثير)
فيردّ عليه النايْ متنهِّدا: (ولكنِّي حُسِدتُ على حياتي/ وما خيرُ الحياةِ بلا سرووووووورِ).
يصرّ البيانو على أسنانه حانقا: (رماني الدّهرُ بالأرزاءِ حتّى/ فؤادي في غِشاءٍ من نبال).
يُرجِّع الناي متأوِّها: (فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ/ تكسّرت النّصالُ على النّصاااااالِ).
هذا هو الوجه الثاني من أوجه المأساة: "وجه التشكّي" الذي يظهر في الظلام أيضا، ويعكس جوهرَ الروح، المنشطِر، والمتآكِل.
الحركة الرّابعة: بقدر ما في سابقتها من ألمٍ، ونحيبٍ، تأتي هذه الحركة بنَفَسٍ أوركستراليّ، تصاعديّ، يغلب عليه إيقاع "البوق" العدائيّ، ويُطعَّم بكورالٍ حماسيٍّ، يردّد صوتا من نوع "الفوكاليز"Vocalise يتردّد كثيرا، ويتكرّر بأسلوب: الترجيع، الذي يمكن تأويله بثلاث طرقٍ؛ الأولى أنّه أحدُ خصائص الموسيقى الشرقيّة، وعناصرها المكينة، القائمة على أسلوب التكرار والتطريب، والثانية أنّه صدى يرجّح خواءَ المكان، ويكرِّس بالتالي عزلة الشاعر ووحشة روحه، والثالثة أنّه محاولةٌ حثيثة منه في إحكام القناع، وتثبيته، ويا له من قناعٍ ثقيلٍ! ومفرط الحلميّة: إنّه "قناع الوعيد" الذي خير مَا يجسّده ما شاع في كثير من قصائده – وبخاصّة المدحيّة – من استدعاء أشباحٍ متخيَّلةٍ، يستند إليهم في تحقيق أحلامه المستحيلة، وكأنّ هذه الحركة تحاكي موسيقيّا هذه العيّنة الشعريّة: (سأطلبُ حقّي بالقنا ومشايخٍ/ كأنّهمُ مِنْ طولِ ما اِلتثموا مُرْدُ/ بيضُ العوارضِ طعّانون مَنْ لحقوا/ من الفوارسِ شلّالون للنَّعَمِ/ وبتنا نقبِّل أسيافَنا/ ونمسحها من دماء العِدا).
الحركة الخامسة: وفيها يخفّ احتدامُ الأوركسترا تدريجيّا، وتهدأ سرعةُ الإيقاع، وتتشابكُ الأصواتُ المفردة بالجمعيّة، مع غلبة صوت العود، الذي يبزغ للمرّة الأولى، هنا يبدو الشاعرُ متردِّدا بين خلع القناع أو ارتدائه، إنّه في منطقةٍ وسطى رماديّة، لا هي بالليل، ولا هي بالنهار؛ قد تكون فجرا جديدا حافلا بالأفراح، وقد تكون غروبا، ومدفنا لجميع الأحلام، ولعلّ هذا البيت هو المعادل الشعريّ المناسب: (وأيّا شئتِ يا طُرْقي فكوني/ أذاةً أم نجاةً أم هلاكا).
وعند هذه اللحظة، يعودُ صوتُ الرّيح، ليضع نقطة الختام، وليوحي ببناءٍ دائريٍّ، يبتلع في خضمه تقلّبات روح المتنبّي، ويختصر عوالمه المحتدمة، ومحاولاته الدائبة تجاوزَ الخيبات، والصّعود نحو النّور، إنّه في هذا يشبه "سيزيف" الأسطوريّ؛ يحمل الصخرةَ، فيغمره الأمل، وتنفلت منه فيضنيه الأسى، هكذا أيضا يسير وجود الشاعر، ويتلوّن وجدانُه، 
وتُختَم تجربتُه مثلما بدأت بوحشة الليل وصفير الرّيح: (وما أنا غيرُ سهمٍ في هواءٍ/ يعودُ ولم يجدْ فيه امتساكا).