سرّ أدونيس

ثقافة 2022/03/14
...

  علي محمود خضيّر
 
في ربيع 2012، تحت ظلّ أجواء دقيقة؛ حكومة مضطربة وصراع سيّاسي محتد سيلقي بالنهاية على العراق أثقل وطأة عرفها خلال العقد الأخير، تمثّل بدخول داعش للموصل بعد عامين تقريباً، أُعلن أنَّ أدونيس هو ضيف معرض أربيل الدولي للكتاب. (900) كيلو متر تفصل البصرة عن أربيل، لكن حسم القرار لم يأخذ سوى دقائق قليلة. استغرقت الرحلة 14 ساعة على مرحلتين، استبدلتُ فيها السيارة أكثر من مرّة، بعض المناطق بين كركوك وبغداد لم تكن مؤمّنة بالكامل.
بعد جولة في المعرض، كان الشاعر ينتظرنا في صالة الفندق، بعد أنْ رتّب الموعد الشاعر الصديق أحمد عبد الحسين. ومع صحبة من الأصدقاء التحقوا من بغداد، كنا بضعة شبان متلهفين للقاء شاعرهم، معبأين بالتطلع والفضول، بالاستفهام والعطش لما عنده، ففاجأنا شاعرنا بتطلعه وتعطّشه: كنا نريد أنْ نسأله، فوجدناه يُبادرنا بالسؤال، جئناه محمّلين برغبة المعرفة والاستزادة فوجدناه يستفهم ويتقصّى ويستزيد. سألَنا: ما جديدكم الذي ستضيفونه إلى لغة الشعر بعد تغيير 2003؟ ماذا كتبتم؟ وكيف؟ كان الوجه السمح والصوت المتمهل يخفي داخله تحفزّاً وتوثباً ساحرين. بدا في تطلّع حثيث لسفر بلا وجهة، مثل بحر وعود لم تتحقق. تواقاً لكل جديد. وكان هذا أحد أسرار أدونيس.
*
لم يكن أدونيس يوماً ممن يركنون لمجد اكتسبوه. إنه مجبولٌ على هيئة لا تهدأ لحال أو تستقر لمآل. تجربته كلّها طواف مستمر نحو المجهول، هجرة إلى الغيب. لا ينفك يعرف طريقاً، حتى يغادره لطرق غير معبّدة، الطرق الملكيّة لا تستهويه. وهذا قولٌ برهانُهُ شاخصٌ، فلم يُعرف للشاعر حالة شعريّة مستقرة "يقينيّة"، لأنه يدرك أنَّ السكون يتبعه التكلس والقيد والنكوص.
في شعرنا العربي، طيف من شعراء "كبار" وصلت تجاربهم إلى قمتها، واستقرت. صعدت بنضجها مرحلةً متوهجةً ثم انطفأت، أخذت تراوح في مكانها، وتنوّع على نفسها، لكنها لا تغامر بسبلٍ جديدة، قد تنزل قليلاً عن الذروة التي وصلتها لكنها سرعان ما تعود إليها، إلى وصفتها الجاهزة، إلى سجنها الجميل! كم من شاعرٍ كبيرٍ هو حبيس ذروته الضيقة؟
 في ظني أنَّ واحداً من أسرار أدونيس أنه شاعر ذروات متعددة، لا نهائيّة، كان بإمكانه أنْ يكتفي بـ"هذا هو اسمي"، "ديوان الشعر العربيّ"، غيره كان اكتفى بـ"الثابت والمتحول" وقضى العمر في اجتراره، والتنويع عليه، لكنه كان يغادر، كلّ مرّة، ذروةً في مشروعه ليبحث عن أخرى، هكذا جاء "الكتاب"، التجربة الفريدة التي لم تقرأ للآن كما تستحق، وهكذا باقي ذرواته التالية. 
ما سرُّ ذلك؟ ما معناه؟
*
تعدد الذروات في تجربة أدونيس الشعريّة ينطلق من منهج أساسي يعتمده نظريةً للفن عامَّةً والشعر خاصَّة، وهو أنَّ على الجمال ألّا ينتهي أو يستنفد، على القصيدة أنْ تنفتح على اللانهاية، أنْ تكون مستمرة بلا زمان أو مكان يحدّها، أنْ تُحيطَ بالأشياء لا أنْ تحيطها الأشياء وتحدّدها، التاريخ، مثلاً، جزءٌ من القصيدة وليس العكس.
هذا المنهج يحتّم بطبيعته بحثاً مستمراً، إطاراً جديداً في الرؤى والقول الشعري. لا يكتب أدونيس قصيدة، هو ينتج مشروعاً كاملاً، بإطاره ونظامه الداخلي، ويقترح لكل مشروع "ناموسه" اللغوي، وأقصد بالناموس الاستعمال اللغوي الخاص بالتعبير في كل مشروع، وبالتالي حتّى الموضوع سيكون ملحقاً ثانويّاً داخل العمل. المهم هي الرؤيا والنظام، وطريقة استعمال اللغة داخل هذا النظام. واكتشاف سبلٍ جديدة في القول الشعري تتقاطع مع السائد وتتجاوزه. هذا كله يصنع "مفاهيم" شعريّة جديدة، أولها الارتباط، تكوينياً، مع طاقتي الشك والسؤال، وتبني الجديد من الرؤى وأشكال التعبير، ونكران أي حقيقة شعريّة ثابتة مهما بدت مغرية، "الحقيقة هي ما يكون دائماً موضع تساؤل"، ولهذا نراه يؤكّد في مقالاته أنَّ شعره لا يعنى بـ"لحظة زمنيّة معينة"، وأنه "زمن لا زمني". وهذا سرٌ ثانٍ.
*
أعود إلى لقاء أربيل.
بدا لي شاعري ذلك النهار النيساني، بعد أنْ ذوّبَ ارتباكي وتردّدي بكيمياء حوار وتفاعل ودود غمرني به، ذاتاً مسكونةً بالدحض والإنكار، مجبولة بالتمرد حتى على نفسها. وبينما كان يدور حوارٌ عن المخيلة، علاقة الشعر بالاستحالة، لغة الشعر "لماذا اللّغة الواصفة ليست، شعريّاً، لغة شعريّة؟"، كنت أهجس في هذا الكيان المعذّب بنفسه، طاقةً تخرق/ تحرق ذاتها، تبعدها عن حدودها، تقذفها في جوهر كل شيء، وتغربها عن كل شيء، كأنه مأساة المستحيل بنفسه، عذاب الحقيقة في أنْ تُعْرَف، مشقّة أنْ تكون مرئياً بينما جرحٌ فيك، داخليٌ، لا يُرى.
قالَ، حينَ سمِعَ بالبصرة، كيف حال محمّد خضيّر؟ والمدينة؟ هل الناس هناك يعيشون كما يشاؤون؟
*
قدرة أدونيس على تتبع الواقع العربيّ، اجتماعياً وسيّاسياً وثقافيّاً، استبصاراً واستشرافاً، والمجيء بجديد في كلّ مرّة، لا يأتي من موهبة فائقة فحسب، بل ما أسميه حالة يقظة مستمرة. يقظة من فَهِمَ وتمثّل التجربة الحضارية وخبرها حتى أحاط بما مضى ورأى ما يأتي، هو لا ينتظر وحياً/ إلهاماً أو لحظة شعرية تزوره بقدر ما هو نفسه في لحظة شعريّة مستمرة، لحظة يُحققها تصالح طبيعي مع فنه وفكره وفلسفته، كأيّ غدير ماء أو شجرة بريّة لا اصطناع فيها، بل توحّد وتكامل. هذا ما كتبته في مفكّرتي بعد قراءة حواره الأخير في جريدة "أخبار الأدب" المصريّة، بمناسبة وصوله التسعين. كانت أفكاره تخلق فضاءها اللا محدود راسمةً أبعاداً عموديّة وأُفقيّة وأخرى لا مرئيّة لمشكلات ما نعيشه اليوم في عالمنا العربيّ مع أطياف حلول ممكنة لو توفّرت الإرادات المخلصة. فضاء يخاطب المطلق لكنه يتصل مع النُسغ الجديد، حواراً وتفاعلاً، بلا تعالٍ يصنّمه، أو كبرياء يلغي معناه.
أدونيس قيمة حضارية. وأي أمّة لا تحسن الإفادة من قيمها الحضارية، لا شك، تعاني وتتعثر وتندم.
*
كانت الشّمس تسلّم أساورها الذهبيَّة لجبل "كورك" حين طلبنا الإذن من الشاعر لنتركه يأخذ شيئاً من الراحة. ظل توّهج عينيه يضارع الأنوار المتراقصة من شرفات قلعة أربيل التاريخيَّة، بينما ابتسامته الحانية تدفئ اللحظة ودّاً ووعداً.
-"نلتقي غداً"، قالها قبل أنْ نغادر صالة الفندق.
- نلتقي دائماً.