جزيرة المُطَفِّفِيْن

ثقافة 2022/03/15
...

 حبيب عبد الرب سروري
تقليد جديد ستتبعه الصفحة الثقافية. سوف نقوم بنشر فصول من كتب هي الآن في المطبعة بانتظار نشرها. اتفقنا مع كتاب ودور نشر على أن يزودونا بالمخطوط قبل إكمال طباعته ليتسنى لنا نشر أجزاء منه بغية تعريف القارئ بالكتاب. اليوم ننشر فصلا من رواية «جزيرة المطففين» للكاتب حبيب عبد الرب سروري، شاكرين له ولدار المتوسط تعاونهما معنا كما نتوجه بالشكر للدور التي استجابت للفكرة.
تصدر خلال أيام عن منشورات المتوسط في إيطاليا
 
- 1 -
الجوُّ كالحٌ كئيب، مشلولٌ شبهُ جنائزي، في هذه الحديقة الصغيرة التي صُمِّمتْ، مع ذلك، لتكونَ بؤرةَ المدينة ومركزها العصبيَّ.
لم أرَ إنساناً واحداً يتجوَّل فيها، أو يقترب من أحد أركانها، حيث يقبعُ بابُ متحفٍ صغير، مُغلَقٌ منذ بدء الحَجْر الصحِّيِّ.
لم يُثر انتباهي شيءٌ يستحقُّ الذِّكْر وأنا أعبرها طولاً وعرضاً أكثر من مرَّة، عدا خيمتَيْن صغيرتَيْن، مختفيتَيْن خلف شجراتٍ ثلاث، وراء المتحف! أطلتُ النظر في الخيمتَيْن باستغراب.
ثمَّ، لقتل الوقت الذي أضحى ثقيلاً سامَّاً في هذه المدينة كلِّها، أعدتُ تجوُّلي المُمِلَّ في هذه الحديقة - المَقْبَرَة، المتاخمة لمحطَّة السكك الحديدية، بانتظار موعد القطار.
أتمعَّن في شجرات الحديقة شجرةً شجرة، أُحدِّق، لوحةً لوحة، في مَعرِض رسومات أطفال مُعلَّقة على سورها الخارجيِّ، أنظر إلى السماء بقلق خوفاً من مطرٍ عدوانيٍّ جديد، وأختلسُ النظر مجدَّداً في الخيمتَيْن ...
فجأة، في عبوري الثالث أو الرابع، دغدغ مَسمَعي صوتٌ يردِّد أُغنيَّة يمنية نوستالجية قديمة، عُمُرها أكثر من 40 سنة، لم يعد يتذكَّرها أحد:
لمعُ البروقْ على جبال الأحْيُوقْ
خلَّى الجبال تَنزُل رماد مسحوق
يا ذي الجبال الشامخات الأنكاب
من خلفكِنْ وجه الحبيب قد غاب
أَسَرَني هذا النغمُ الثخينُ المعتَّقُ، كَهْرَبَني في الحقيقة، وهزَّني هزَّاً. كان عذباً رقيقاً أيضاً. 
شبهُ سيرياليٍّ، لا سيَّما هنا، في هذه المدينة المسكونة بالعدَم، في أقصى شَمال فرنسا.
توجَّهتُ نحو مصدر الصوت مُمغنَطاً، كبحَّارٍ تصلُ مَسمعَه أنغامٌ جذَّابة ساحرة، تعزِفها حورية البحر.
خرج لي إثر اقترابي من خيمتهِ شابٌّ ثلاثينيّ، أشعث أغبر، لم يستطع إخفاء ابتسامةِ منتصِر: كان ينظر من ثقبَيْن صغيرَيْن في جدار الخيمة نحو مَنْ شعرَ أنه يحوم قريباً منها، أكثر من مرَّة.
خمَّن بفراسة من منظري أني لا أسترق النظر بخُبث، ولستُ مصدر ضَرَر.
وأدركَ من ملامح وجهي ربَّما (رَغْم كِمَامَة وباء الكوفيد السوداء الهرمية FFP2!) أني آتٍ من اليمَن، وأراد امتحان ذلك بغناءِ هاذَيْن البيتَيْن، ورؤية ردّ فعلي!
لم أحتج وقتاً طويلاً (دون أن أتجرَّأ إطالة النظر نحوه) لاكتشاف أن مَن اسمُهُ طفران (كما قال! اللاجئون غير الشرعيِّيْن لا يحبُّون إظهار أسمائهم الحقيقية): يمنيٌّ مثلي، يُحبُّ المرحَ، لا سيَّما في عمق الوجع وبين سكرات الموت؛ من منطقة تِهَامَة على البحر الأحمر، حيث يقطن أكثر سكَّان اليمن فقراً وبؤساً وشقاء ومعاناةً من العنصرية.
لستُ، إذن، العصفور اليمنيّ النادر الذي يعيش في فرنسا، ويسيرُ الآن وحيداً في أقصى أطرافِها، لشيءٍ ما في نفس يعقوب.
ها نحن اثنان اليوم، وفي مدينةٍ ميكروسكوبية، تكاد تخلو من البشر!
لاحظتُ، أيضاً، أن جارَه، نصفَ النائم في الخيمة المجاورة، إرتيريٌّ (اسمه حَجِّي)، له اللون الأسمر نفسه، والعُمُر تقريباً.
كلاهما لاجئان غير شرعيَّيْن، يختفيان عن بؤرة أنظار العامَّة، في طريقهما بالتأكيد إلى مكانٍ ما.
وجهان جذَّابان بابتساماتٍ تُطلِق سراح أسنان ناصعة البياض.
وبأعينٍ واسعة، شديدة السواد والتعبيرية، والرغبةِ في المرح رَغْم الكارثة.
التمييزُ بينهما غير صعبٍ مع ذلك: أحدهما أصلعُ، والآخر لا.
ويختلف في وجهَيْهما موقِع أثَرَيٌّ لجُرحٍ صغيرٍ ما، أو شظايا رصاصةٍ ربَّما.
لا يوجد أصعب من النظرات الأولى، في لقاءٍ صادمٍ كهذا مع شابَّيْن ينامان بعيداً عن أعين العالَم، فوق الوحل، في بردٍ، تصفع أسواطُه الروحَ قبل الجسد: ألسنا جميعاً، في الواقع، رفاق سفر على سفينة اسمها “الحياة”، لا نعرف من أين أبحرَتْ وأين سترسو؟ كما يقول عمر الخيَّام!
ما يخدش نياط القلب طوال هذا السفر: بعضنا يجد نفسَه مدجَّجاً بمعاطف دافئة وملابس وأحذية جميلة.
مَحميَّاً طوال الرحلة بِطاقمٍ من الأطبَّاء والخبراء في المجالات كلِّها.
يقبع في مقصورةٍ ثرية في علياء السفينة، تنتصُّ وسطها طاولةُ موائد متجدِّدة شهية ...
وبعضنا الآخر يلهث سابحاً، وسط الأمواج العاتية، هدفُهُ اللحاق بالسفينة، والتسلُّق في مؤخِّرتها، أمام نظرات الركَّاب غير المكترثة أو الرافضة له غالباً، أو العدائية جدَّاً أحياناً وهي تبصق نحوه من شرفات مقصوراتها.
ثمَّ تجرَّأتُ النظر في الرفيقَيْن، أطوَل فأطول: لهما الحمض النووي (DNA) نفسه تقريباً.
الذكريات والأحلام أنفسها ربَّما.
الهمومُ والهدفُ أنفسهما.
يتشابهان تشابُهَ اليمن والحبشة: أساطيرُنا واحدة: هناك “ملكة سبأ” في اليمن، وأخرى في الحبشة.
نشأتْ شجرة البُنِّ في كونَيْن متوازيَيْن: اليمن والحبشة، واقعاهما المنكودان وجهان لشقاءٍ
واحد ...
“من مشنقةٍ إلى مشنقةٍ فرَجٌ”؛ سمعتُ من طفران، لأوَّل مرَّة، هذه المقولة المأثورة التِّهَامِيَّة التي تعني: الحياة سلسلة مشانق، وما الفرَج إلَّا استراحات عابرة بين مشنقةٍ وأخرى، بين سجنٍ وآخر، بين شقاءٍ وآخر ...
وفي حياة طفران (الذي هرب من حروب اليمن بزورقٍ صغير نحو جبوتي أوَّلاً، قبل أن يجد نفسه اليوم في أقصى شَمال فرنسا) مَسْبحةُ مشانق استقام لها شَعْر رأسي ألف مرَّة.
حسب ألبير كامو: “يلزم أن يكون سيزيف سعيداً” كلّ مرَّة يهبط فيها من رأس الجبل، قبل أن يتألَّم من جديد، وبلا نهاية، وهو يعاود حمل الصخرة نحو القمَّة.
سعيدٌ حقَّاً؟ ... 
لستُ متأكِّداً جدَّاً. 
سعادةٌ طفيفة، فرَجٌ خفيفٌ عابر بين مشنقتَي صُعودَيْن، في أفضل الأحوال.
ما أثار استغرابي هو أن طفران لم يسألني شيئاً عمَّا أعمله هنا، ولم يبحث عن أيِّ مصلحةٍ ما من تواجدي في هذه المدينة، كمساعدتهما في الهروب إلى آخر محطَّات رحلته (التي أعرف مثله أين يودُّ أن تكون)؛ أو حتَّى استضافته لمطعمٍ أو لفنجان قهوة: المقاهي والمطاعم كلُّها مغلقة بسبب الكوفيد، بِغضِّ النظر عن أن استضافتَه من قِبَلِي، في عين القانون: “جريمة تضامن” مع لاجئ غير شرعي! ...عموماً، بجانبهِ في الخيمة علبةُ تمْر ونصفُ قِنِّيْنَة ماء، يفطر بهما، بل يستضيفني لتقاسمهما معه.
عرَّفتُهُ بنفسي، من دون طلبٍ منه: قضَّيتُ ثلاثة أيَّام أتسكَّع وحيداً في هذه المدينة الباردة المبلَّلة الكئيبة، بعد أن انغلقتْ حدودها على حين غِرَّة، ولأجَلٍ غير محدَّد. انتظرتُ عبثاً أن تعودَ مواصلاتها مع الدولةِ المواجِهة، لأسافر لمهمَّة عملٍ “صحفيٍّ” استطلاعيٍّ سريعة.
“صحفِيٌّ” أنا، عزيزي طفران! ثمَّ أضفتُ: قيودُ وباء الكوفيد جعلتْ يوميات هذه المدينة عجفاء حِدَادِيَّة، أكثر من غيرها من المُدُن. وحان موعد العودة بالقطار إلى المنزل، بعد ساعات من الآن، لقضاء ليلة عيد الكريسماس.
لم يُصغِ طفرانُ لي. كلُّ ما يحتاجه حضرتُه هو أن يتكلَّم العربية بلهجَتنا المحلِّيَّة (لعلَّه لم يتحدَّثها منذ دهر)، وأن “يُفضفضَ” قليلاً، وأن يمرح ويضحك كثيراً، وأن يترك في مَسمَع إنسانٍ ما قصَّةَ حياته، بكلماتٍ لذيذةٍ أنيقةٍ لا تُنسى، وكأنَّه في طريقهِ إلى الموت في ليلة عيد الميلاد
هذه!
لاحظتُ: حاجته للثرثرة مشتعلةٌ فعلاً، غير بعيدٍ من صديقه الإرتيري اللطيف، الذي عاد يُنخِّر بهدوء في الخيمة الملاصقة. شخيرُهُ بدأ هادئاً، ثمَّ تصاعدَ تدريجياً من راجفةٍ إلى رادفة، كالنفخِ في الصُّوْرِ يوم القيامة.
أمَّا أنا، فكنتُ مبهوتاً من هذه الصدفة العجيبة التي جمعتْنا في هذا الركن الخفيّ من الحديقة. كنتُ أصغي له بجوارحي كلِّها، فاغرَ الفاهِ من أهوال ما عاشه وهو يتنقَّل من مشنقةٍ إلى مشنقة، مع صديقه حجِّي، بعد أن فقدا، في بعض مشانق رحلة العُمُر (التي انطلقت أوديستها من جبوتي، وقادتْهم إلى هذه المَقْبَرَة) ثلاثةً من مجموعتهما الأولى.
 
 1) منطقة في اليمن.
 2) الأنكاب: النتوءات والمرتفعات الجبلية.