وعي الحاضر: ملاحظات عن المنفى والكتابة

ثقافة 2022/03/16
...

 ريبيكا روث جولد *
 ترجمة : محمد تركي النصار
1-2
يعلن المتحدث في قصيدة (الرقص في الأوديسا) وهو العنوان الذي اختاره الشاعر الروسي المولد، الأميركي الجنسية ايليا كامنسكي لمجموعته الشعرية التي صدرت عام 2004 بأنه لا يستطيع العثور على وطنه: (كل ماهو موسيقي هو ذاكرة) هكذا يعبر الشاعر وهو يستحضر صوت الأم.
تستدعي اللغة بالنسبة لكامنسكي الذاكرة، والأخيرة تخلق وطنا للمنفي والمهجر من وطنه، ففي (الموسيقيون الجوالون) وهو القسم قبل الأخير من مجموعة كامنسكي نصادف تخطيطا نثريا لبول تسيلان معين، وتسيلان هذا وهو شخص خلقه خيال الشاعر يجلس على السطح باحثا عن فينوس، مرتلاً شعر برودسكي، الشاعر الروسي الذي بدأ كتابة الشعر بعد عقود من موت تسيلان الحقيقي التاريخي.
يكتشف تسيلان الذي خلقه خيال الشاعر، موهبته، أما الأشخاص الذين يسكنون في قصائد كامنسكي فهم نازحون من التاريخ بالطريقة ذاتها التي نزح فيها كامنسكي من الأرض التي ولد فيها.
بلاد لغة الشاعر واسعة مثل السماء نفسها، حيث لاحدود لها: (ولدت في المدينة التي سميت على أسم اوديسيوس، ولا أمدح أي أمة) يقول الشاعر في خلاصة القصيدة.
قصيدة (الرقص في الأوديسا) هي عن الرقص والتجوال، وملهمة الشاعر هي مينيموزين زوجة زيوس التي ولدت تسعا من ربات الشعر، وهذه الولادة هي دليل على الدور المهم للذاكرة في تشكيل هوياتنا.
كامنسكي شأنه شأن الشعراء الأميركان البارزين هو مهاجر ولاجئ  يجد وطنه داخل اللغة، وهي الانكليزية التي تدمج العديد من خصائص اللغة الروسية، إضافة الى شظايا من شعر العالم  لخلق نوع من المصالحة وتقريب المسافات بالنسبة لأوديسا البلد الام، فالمهاجر ربما يواجه الهزيمة أو الاذلال حيث كل شيء يجب اعادة تعلمه من جديد، كما يعرف كل المهاجرين، لكن ثمة شعور بالعزاء بالنسبة لجميع هؤلاء الذين انقطعت جذورهم عن بلدانهم الاصلية يكمن في مسعى الشاعر لبناء وطنه داخل الكلمات.
إن الابتعاد عن أوطاننا الأولى هو نفي عن نسخة من أرواحنا، والتذكر هو محاولة لاعادة تشكيل ذلك الغياب في أرواح جديدة، وبينما يقيم كامنسكي في مشاهد من طفولته ليبني وطنا جديداً، ينشئ كتاب منفيون آخرون أوطانهم من قصائد أخرى، وخصائص لغوية اخرى مؤسسين لطرق مبتكرة في الاقامة على هذا الكوكب. 
إنها ستراتيجيات ابتكرناها أنا وزملائي الكتاب الاخرون لنبني بيتا متنقلا ونحن نمشي في هذه الأرض الشاسعة.
خلال سنوات الربيع العربي، تأكدت بأنني لن أعود أبدا إلى بلدي الام، وستكون علاقتي مقتصرة على الزيارات وليس العيش والسكن مرة أخرى هناك، طالما إنني لم أسع لإنشاء بيت لي هناك، ولم يمثل هذا صدمة تراجيدية بالنسبة لي، ففي الوقت الذي تأكدت من استحالة العودة كنت حينها قد غادرت سوريا توا بعد حصولي على زمالة في برلين، وبالنسبة لاكاديمية متنقلة يكون الأهم هو الحصول على وظيفة معقولة، وكل الفرص التي اتيحت لي كانت في الخارج، ولم أجد ضيرا في ذلك لأنني لم أشعر أبدا بأنني أملك احساس الانتماء الى وطن وبأنني أميركية.
كنت شغوفة لأن أرى العالم من خلال شقتي العالية، بمنطقة تيرغارتن في برلين، حيث كنت أشاهد المصريين يطيحون بحكم مبارك المدعوم أميركيا ليدشنوا عهدا تاريخيا جديداً.
أعقبت سنتي في برلين سنة أخرى في بيت لحم ثم سنة ثالثة في سنغافورة وبعدها بودابست، كل واحدة من هذه الاقامات تركت في داخلي أثرا، فبرلين ألهمتني الشعر، ووجودي في وسط الاحتلال الاسرائيلي، منحني وعيا سياسيا عززته علاقاتي مع الفلسطينيين، وهذا الوعي تطور إلى احتدام سياسي في المملكة المتحدة بعد ست سنوات.
كانت سنغافورة هي الوحيدة بلون واحد من بين اقاماتي العابرة لكن تجربتي في انشاء منهج أدبي دراسي في كلية ييل – نس عام 2014 مكنتني من أن أرى الهجرات في النصوص التي صرت احبها بطريقة جديدة.
 كانت الهجرة الدائمة الأنضج هي إلى بريطانيا، البلد الذي صار الأقرب إلى مايمكنني أن أسميه وطنا حيث أكتب هذه الملاحظات الآن.
خلال سنوات الهجرة  المتواصلة بدأت صورة بلدي الام تنحسر تدريجيا من مدى الرؤية، قدمت على وظائف في الولايات المتحدة وعلى وظائف في كل مكان، فعلت ذلك بحماسة خافتة متوقعة الرفض الاوتوماتيكي في داخل اميركا، حيث بدأت بعدها أشعر بأنني أنتمي الى اوربا أكثر من الولايات المتحدة.
كانت أسفار النضج مسبوقة برحلات قسرية خلال فترة طفولتي تسببت بتمزيق طبقات عواطفي ووجداني واحساسي بالانتماء، فمن الينوي حيث ولدت انتقلنا الى نيو اورليانز، فلوريدا، واشنطن دي سي، كوستاريكا ثم اوكساكا ومكسيكو، كلها قبل أن أبلغ مرحلة المراهقة، ولم أكن أتحدث الاسبانية عندما وصلت الى مركز اميركا، لكنني تعلمت بسرعة، التظاهر بأنني أجيدها.
كان الناس يسألونني في كل شأن يتعلق بالهجرة: هل والداك يعملان في السلك العسكري؟ ولأنني كنت طفلة مهاجرة كنت محتاجة أن اشرح للآخرين لكن الامر بالنسبة لي كان ببساطة جزءا من تصميم وجودي، أحد أفراد أسرتي استقر أخيرا في كاليفورنيا، وأصبحت مراهقة دائمة الهروب الأمر الذي سبب رعبا مستمرا لوالدي، ولم يكن بامكاني أن أتصور أي طريقة اخرى لوجودي.
 ربما جعلتني طفولتي الحافلة بالتنقلات أفقد صبري واحساسي بالراحة والاستقرار، فقد نشأت وترعرعت معتادة على الهروب واذ بلغت الاربعين أجدني قد تأقلمت مع حياة المنفى.
المنفى تجربة غريبة بالنسبة للكثيرين، لكنه مكان مألوف في كتابتي، ففي العالم الذي أعيش فيه يكون المنفى أمرا طبيعيا، وكل أدب الحداثة هو أدب منفى بطريقة أو باخرى، فالحداثة الأميركية تمَّ تشكيلها في باريس قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، والحداثة العربية ولدت خلال تلك الفترة نفسها في مدينة نيويورك على أيدي الشعراء الذين هاجروا من الشرق ولا يمكن أن نذكر الحداثة الايرانية دون الاشارة الى تأثيرات تبليسي واسطنبول ولندن وبرلين.
ومثل الكثيرين الذين يعتمدون على ثمرات عقولهم في العيش، لايختار الأكاديميون أوطانهم، فالتشبث بالبقاء في بلدك الأم قد يحرمك فرص عمل كثيرة في بلدان اخرى  لكن بعضهم يفضل البقاء قريبا من عائلته، والمرة الاولى التي قدمت على وظيفة في بلدي امريكا قريبا من عائلتي في اوريغون ندمت عليها فقد سببت احباطا وحزنا لوالدتي لأنني لم احصل على الوظيفة بسبب المنافسة الشديدة .
طوال سنوات الهجرة أصبح عدد قليل من الشعراء والنقاد رفقاء دائمين لي ويقف ادوارد سعيد على رأس هؤلاء إذ أتذكر مقالته المشهورة (تأملات في المنفى) التي قرأتها عام 1984 في الوقت نفسه الذي باشرت به دراستي للدكتوراه، وفي كل مرة أقرأ المقالة تعطيني تبريرا لاختياراتي في الحياة مثلما تقدم تشخيصا يفسر رغبتي الوجودية القوية في الهجرة، وشغفي الدائم بتغيير الأماكن والبلدان.
 * كاتبة ومترجمة وأستاذة الدراسات الإسلامية والأدب المقارن بجامعة برمنغهام