وهم الضرورة في الفكر الجمعي

ثقافة 2022/03/16
...

 منال هاني
 
من الجلي للقارئ والدارس في عناوين فلسفة النفس البشرية وتوجهات الإدراك الذي يبني ردود الفعل الانطباعية تجاه ما يدور حوله من أحداث ومواقف، قد تتدخل بشكل أو بآخر في تشكيل فهمه للمحيط وتبنيه للقرارات الأساس في مسيرة حياته والتي تتقولب في ضمير القطيع وتتعدى على قناعات الفرد كضرورات، لا بد منها تعرّف مدى نجاحه وتفوقه في المفهوم الجمعي والنمطي للتفوق في منظور الجماعة.
من هنا يتشكل في وعي الفرد المنسجم طوعا أو كرها وعلى اختلاف درجات هذا الوعي في خضم فكر القطيع الذي يفرض عليه حدودا للحلول وتمييزا لقيم النجاح وأشكاله، فبدل دفعه بعيدا في الطموح والرؤى للخوض بحرية في اختياراته وما يراه صحيحا في جوهر عفويته، فإنها تدفعه للداخل ليتماهى مع مشيئة فرضية وهم الضرورة في شكل قاس لإعادة تشكيل الإنسان المؤدلج بما يتناسب مع أيقونات الفكر المجتمعي والتراكم التاريخي للموروث غير 
لمادي.
 فنراه ينساق خلف رغبته الملحة في تحقيق وتنفيذ قائمة من الأهداف التي فُرِغت من قيمة ضرورتها وأصبحت تشكيلا من اللاوعي نرغب بتطبيقه دون وجود ضرورة حقيقية لمغزى الهدف أو جدوى حصوله، مما يقيد النهج التفاعلي للإنسان مع ذاته وطريقة تبنيه لسمات المحيط في سلوكه وتكرار الفعل لإثبات الانتماء كنوع من العوز للشعور بالأمان (الذي أيضا يتم تلقينه وتعريفه لنا على اعتباره الانسجام ضمن منظومة القطيع) دون التنبه والوعي الحقيقي لأهمية التفرد والتمرد في رسم طرق جديدة وأساليب جريئة للتعبير عن إنجازات الفرد وتحديد مقياس لتفوقه ونجاحه بعيدا عن تدخل العقل الجمعي وفرض أنماطه، وهذا يمكن إسقاطه على الطرح الفكري والنتاج الأدبي عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تروج لأدلجة معايير تَقَبّل الفرد ونجاحه وتقييمه ووضعه على قائمة الأضواء والشعبية بعيدا عن فحوى محتواه ومدى أهميته وانما اعتمادا على مقارنته بأنموذج ناجح (أيضا من وجهة نظر افتراضية) وتقييمه تبعا للمطابقة بينهما، ثم تتسلسل المطابقات وتنخفض مستوياتها مع تكرار التدوير لمعايير النجاح وتمييعها، وهذا يمتد إلى معايير النتاج الأدبي التي أصبحت مجترّة ومعادة التدوير مرات عدة، حتى أصبحت خارج إطار الاستهلاك الذوقي الصحي ومع ذلك نرى تهافتا على تعاطي هذا الاجترار في الشكل والصيغة والأسلوب والفكرة أيضا، بل وتكرار المفردات نفسها ونفي شعرية ما دونها، واستبعاد المختلف من دائرة الإبداع وتهميشه وهذا ما وجدته في متابعة متسلسلة لموجات شعرية وأنماط أدبية معدية تداولها جمع غفير من المدلين بدلائهم في بحيرة الإبداع. 
هذا التمييع تدور عجلاته على الطارئين وشعراء الصدفة والمتسلقين ومن حذي حذوهم، في محاولة لإقحام أنفسهم عنوة في أنف المشهد الأدبي وإقناع المحيط أنهم الأكثر تطابقا مع نموذج النجاح المحدد سابقا، وبالتالي الاكثر نجاحا، فيصبح المجتمع الأدبي معتادا على وجودهم ومتقبلا لأغلبية نتاجهم وعشوائيته وبعده عن قيم الإبداع، من باب آخر قد يكون هنا لوهم الضرورة بعده الزمني الذي ينقله من هوس ملح غير مبرر إلى مقياس بحثي يمكنه تقصي التوجه وسلوكيات الفكر الجمعي الأدبي في علامات معرفية يمكن تبنيها من قبل الدارسين والباحثين لطرح مقترحات بناءة تعيد استقامة مبدأ النموذج ومعايير الجودة الأدبية السليمة.
ماهي ملامح المرحلة القادمة على صعيد المنجز الإبداعي الإنساني وطرائق طرحه وتذوقه، هل الزمن عامل في تغيير طرق تقييم النجاح؟ أم أنها ثوابت حاضرة لا يتغير إلا هيكلها مع بقاء الأصل والأساس كما هو.. هنا يتدخل العامل البحثي والنقدي وتبرز أهميته في هذه المرحلة، ولكن أين المختصين في هذا المجال؟!