لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه

ثقافة 2022/03/16
...

 نجم والي
إحدى الروايات التي سحرتني منذ بداية قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى – على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد قسم اللغات الأوروبية في أواسط السبعينيات، هي رواية الألماني أريش ماريا ريمارك: «للحب وقت وللموت وقت». تدور أحداث الرواية في ربيع عام 1944، تاريخ الإنعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر، وقصف طائرات الحلفاء لبرلين بالتوازي مع زحف الجيش الأحمر عليها، قبل سقوطها في 8 مايس 1945.
 وتروي مغامرة الجندي أرنست غريبير البالغ من العمر 23 عاماً، الذي يحصل على إجازة غير متوقعة قادماً من الجبهة الشرقية بعد أن عاش للتو بنفسه هزيمة الجيش السادس على جبهة ستاليننغراد، ورأى الآلاف يموتون هناك، ولم يكن يعلم أن عليه أن يعيش حطاماً آخراً هذه المرة، حطام مدينته برلين نتيجة قصف طائرات الحلفاء. بيوت محطمة وشوارع محفورة، وأسر مشردة. حتى أسرته نفسها هربت إلى مكان مجهول. غريبير الذي سيبدأ بالدوران في المدينة مثل غريب، بحثاً عن مأوى، لن يشعر بالفرحة، بالحياة، إلا بعد لقائه مصادفة بإليزابيث، الفتاة التي انتهى أبوها إلى معسكر للاعتقال النازي بسبب وشاية.
غريبير وإليزابيت، كانا هائمين بلا هدف عبر حطام وخراب برلين، حين تتقاطع خطواتهما، فكيف لا يقع الاثنان في حب بعضهما، وهما اللذان تقاسما مائدة يأس واحدة؟
قصف المدينة يستمر، القائد المجنون الذي اسمه هتلر ما زال مصراً على تنفيذ جريمته حتى النفس الأخير، يرسل الأطفال في آخر الأيام إلى جبهات الحرب، الناس تهرب، ليس أمامهم غير الموت تحت الأنقاض. فقط هما الاثنان، أرنست غريبر وإليزابيت لا يريدان المغادرة. إلى أين؟ هكذا يدور الاثنان محصنين بحبهما في برلين من مكان إلى آخر، ومع حلول المساء يبدآن بالبحث عن مأوى يلجآن إليه، يكافحان في سبيل قضية لها علاقة بشؤون القلب، لا علاقة بالوضع العام
النضال في سبيل قضية حبهما من جهة، ومن الجهة الأخرى الحرب وما تحمله من عبثية وموت، ولا أحد يوضح مَنْ هو المسؤول عن هذا الدمار الذي لحق بألمانيا، مَنْ هو المذنب في الحرب المدمرة؟ حتى البروفيسور بولمان، الذي يعرفه غريبير منذ أيام المدرسة لا يقدم له جواباً، «الذنب»، يقول بولمان، «لا أحد يعرف، أين يبدأ الذنب وأين ينتهي. إذا شئت، أنه يبدأ في كل مكان وينتهي في اللامكان. لكن ربما الأمر هو أيضاً بالعكس. والشراكة في الجريمة! من يعرف ماذا ذلك يعني؟ الله وحده»، وعندما يسأله غريبير، إن كان عليه الالتحاق بالجبهة بعد انتهاء إجازته ويكون بذلك مشاركاً بالجريمة؟ يجيبه: «ماذا أقول لك؟ إنها مسؤولية كبيرة. لا أستطيع اتخاذ القرار لك»، وعندما يلح غريبير، «هل يجب على كل واحد أن يقرر لنفسه؟»، يجيبه بولمان، «أظن نعم. ماذا يكون غير ذلك؟
الناس مشغولة بقصف الروس لبرلين والإذاعة الألمانية تبثّ المارشات العسكرية وهتلر يرسل فتيانه للقتال. وحده الجندي غريبير، القادم من الجبهة بإجازة مشغول بأمر واحد: قضيته التي تخص قلبه، زواج حبيبته. لم يهمه سقوط برلين وهزيمة ألمانيا. كان يهمه أمر واحد: الزواج من المرأة التي أحبها، والاحتفال بتلك الليلة حتى إذا تهدم البيت، وليشربا نخبهما على أنقاض البيوت: المهم أنهما يعيشان.
أنه هذا الذي أطلق عليه مبدع ألماني آخر، زميل لريمارك فرّ مثله للمنفى أيضاً، بيتر فايس: «أستيتيك المقاومة»، حين يصبح إنجاز فعل إنساني بسيط بمثابة رمز لإحدى «جماليات المقاومة» ضد الديكتاتورية والحرب، مَنْ منا لم يعرف ذلك في بلاد وادي الخرابين أو في أي بلاد أخرى عاشت خرائب شبيهة؟
حين تستحوذ على الجو العام وتهدم الحرب كل ما له علاقة بالحياة، يصبح أكبر إنجاز إبداعي هو البقاء على قيد الحياة. لكن هل هناك في هذه الحالة قضية أكبر من قضية القلب وشؤونه؟
آلاف المقالات وآلاف الكتب كُتبت عن تحرير ألمانيا من القبضة النازية من يتذكرها؟ لكن هل هناك أحداً قرأ هذه الرواية ونسي الجندي الشاب غريبير، بطل ريمارك، أو هل هناك أحد يتذكره ولا يشاركه نخب الحياة؟ لهذا السبب عرف النازيون مبكراً قوة روايات ريمارك. أول رواية أحرقها النازيون في جريمة حرقهم للكتب في 10مايو 1933، كانت روايته الأولى «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، رواية مضادة للحرب بامتياز. ليس من الغريب أيضاً أن يكون ريمارك أحد أول الكتّاب الألمان الذين غادروا ألمانيا بعد تسلم هتلر للسلطة عام
1933.
كما ليس من الغريب أنني أحببت هذه الرواية منذ قراءتي لها وأنا شاب يافع، كأنني عرفت، أن بغداد ستعيش الدمار نفسه يوماً، كأنني عرفت أن دماراً سيلحق بنا مع مدمر اسمه صدام، سيختفي، لكن دمار بغداد والبلاد من جنوبه إلى شماله، من شرقه إلى غربه لن يتوقف، كأنني عرفت، أن أجيالاً ستموت في الحرب، وأن أجيالاً أخرى ستأتي، تحلم بالحب، بالزواج، بالسعادة، لكنها ستموت بطلقة طائشة وبقذيفة دبابة أو مدفعية، أو... صاروخ، كأنني عرفت، أن لا حاجة لتذكير أجيال قادمة ماذا تعنيه الحرب، ماذا يعنيه الخراب، كلا، لأن الناس سيعيشونهم بأنفسهم، بل كأنني عرفت، أن لا أرضاً ولا زاوية في العالم ستخلو من حرب، وأن لا مكاناً سينجي الناس من الموت بسبب سقوط قذيفة.. وحين تنشب الحرب، أو حين تُطلق قذيفة أو طلقة أو صاروخ ويموت إنسان، ليس من المهم السؤال، طلقة مَنْ هي التي أُطلقت هناك، أو لأي هوية، لأي دين أو لأية قومية دُمغت بها أشلاء قتلى الحروب وصرعى الإطلاقات، كلا، ليس ذلك هو المهم، المهم هو ألا يُقتل إنسان، من يقول غير ذلك، ويتغنى منشداً صرخة العسكر “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، فعليه التعلم من الجندي العاشق غريبير وحبيته إليزابيت، التعلم، أن “للحياة وقت ... وللموت وقت”، وأن أكبر إنجاز إبداعي هو البقاء على قيد الحياة، و.. لكي نعيش، ليس أمامنا غير أن ننشد عالياً:”لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه” عدا ذلك: خراب في خراب!