السكيتش السردي

ثقافة 2022/03/16
...

 د. ثائر العذاري 
يعد مؤرخو الأدب الانجليزي كتاب (ديكنز) الأنموذج الناضج لكتابة السكيتش السردي، والكتاب الذي يقع في أربعة أقسام يسجل صورا حياتية واجتماعية وثقافية من لندن الفيكتورية، على أن كل سكيتش في الكتاب كان يتضمن لوحة تخطيطية مرسومة بقلم الرصاص، تمثل المكان الذي يتحدث عنه، وكل اللوحات، طبعا، من إبداع الفنان (جوزيف كروكشانك) الذي كانت لوحاته تزيّن كل أعمال (ديكنز) تقريبا، وما لا بد من التركيز عليه هنا هو تلازم السكيتش السردي المكتوب مع السكيتش التخطيطي، منذ نشأة هذا اللون الأدبي.
وكثيرا ما يشار إلى أحد سكيتشات الكتاب ووصفه بأنه من أجمل ما أبدع (ديكنز)، ذلك هو (تأملات في شارع مونماوث) وهذا واحد من شوارع لندن العريقة الذي كان في زمن (ديكنز) سوقا للألبسة المستعملة، وهذه بدايته: كنا نستمتع كثيرا بالتجول في شارع مونماوث العريق، بسبب عراقته ومنفعته أيضا، ونرتبط به، فهو المحل الوحيد لبيع الملابس المستعملة، وكان يزعجنا كلما دخلناه أولئك اليهود ذوو الشعور الحمراء، الذين يجبرونك على دخول منازلهم القذرة ليعرضوا عليك حزمة من الملابس سواء أرغبت بذلك أم لم ترغب… 
وبعد وصف مسهب للشارع يقف أمام أحد المحلات حين تلفته مجموعة من الملابس التي تخيّل أنّها تعود لشخص واحد أبان مراحل عمره كلها: … وفي اليوم التالي كنا مشغولين بالبحث عن زوج متناسق من الأحذية المصنوعة من الدانتيل تبرز شخصيتنا مثالية، والحقيقة أن كل ما وقعت عليه أعيننا كان صغير الحجم، عندها صدمنا وهالنا ما رأينا، مجموعة متراوحة من الملابس، شعرنا على الفور أنها كانت تعود للشخص نفسه وفي أزمنة مختلفة من حياته، والآن، تأتي واحدة من تلك المصادفات الغريبة التي تحدث في بعض الأحيان لتعرض معًا للبيع في مكان واحد… كانت حياة الرجل كلها مكتوبة بشكل مقروء على تلك الملابس، كما لو كانت سيرته الذاتية مكتوبة على ورق أمامنا.
ثم يسرح بتأملاته لتخمين شكل صاحب الملابس المفترض وأحداث حياته اعتمادا على آثار اللبس البادية عليها: كان الأول بدلة أولاد ضيقة مرقعة ومتسخة بدرجة كبيرة؛ واحدة من تلك الأكياس القماشية الزرقاء المستقيمة التي اعتاد الأولاد الصغار على التقيد بها، وقد علقت بطرقة مبدعة حيث ربطت السترة بالبنطلون القصير لتكون بشكل صبي، مع صف مزخرف من الأزرار على كل كتف، ثم تزرير بنطاله فوقها، لإضفاء مظهر على ساقيه، تحت الإبطين مباشرة. كان هذا ثوب الصبي. كان بإمكاننا أن نرى أنها تخص فتى من البلدة، كان هناك قصر واضح في البنطلون والأردان؛ وتكيس عند الركبتين، كما كان يفعل الشباب الصاعد في شوارع لندن. ويستمر في هذه التأملات ليبني كل حياة الرجل حتى وفاته، وثمة لوحة تخطيطية من لوحات (كروكشانك) تظهر مشهدا لأحد محلات الملابس المستعملة في الشارع.
ما يمكن أن نلاحظه سريعا، هنا، أن الهم الرئيس الذي كان يشغل الكاتب هو الوصف الدقيق للشارع، ثم إضفاء صبغة أدبية عليه بإدخال شيء من التخييل في الوصف، وثمة سمة تتسم بها كل السكيتشات التي كتبت في العصر الفيكتوري تقريبا، هي كلام الراوي بصيغة الجمع الذي يبدو أنه مما خلفته الكلاسيكية في الصياغات الأدبية. وتجدر الإشارة إلى أن قضية الطول والقصر التي تشر إليها بعض المراجع لا تبدو قارة، فسكيتشات (ديكنز) تمتد على عدة صفحات، فالسكيتش المشار إليه طوله خمس صفحات، بينما قد تتجاوز سكيتشات أخرى في الكتاب خمس عشرة صفحة.
وتمثل أقسام الكتاب الأربعة الموضوعات التقليدية للسكيتش في القرن التاسع عشر، فهي:
1 - أبرشيتنا، يتضمن سبعة سكيتشات تصور مجتمع ديكنز، فنفوذ الأبرشية يمثل حدود الحي.
2 -  مشاهد، وفيه خمس وعشرون سكيتشا تصور الأماكن المهمة في لندن.
3 - شخصيات، يتألف من اثني عشر سكيتشا تصف عادات أهالي لندن وحياتهم اليومية.
4 - حكايات، يتضمن اثني عشر سكيتشا تسرد بعض الأحداث الشخصية التي لا تخلو من ذكر الأشباح والأرواح التي ظلت من سمات أعمال (ديكنز)، وأضيف قسمان للطبعات الحديثة لم يكونا من الكتاب الأصلي. ثمة تجارب كثيرة في الأدب العربي قدمت نصوصا متفرقة، قد تقترب من (السكيتش السردي) عند الغربيين، غير أننا لا نملك دليلا على أن كتابها قصدوا ذلك قصدا، لكن هذا لا ينطبق على عمل القاص العراقي محمد خضير منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي.
في عام 1993 أصدر محمد خضير كتابه (بصرياثا)، الذي فاجأ متابعي نتاجه السردي السابق، فالكتاب نوع أدبي غير مألوف في الأدب العراقي، فضلا عن أن الكاتب نشره غفلا من التجنيس، فلم يكتب على غلافه أي كلمة أو عبارة تدل على نوعه، غير أن اللافت هو العنوان الثانوي (صورة مدينة)، الذي يجعلنا نربطه بتلك الكتب الغربية التي وضعت في عنواناتها كلمة (دفتر الرسومات sketchbook) أو كلمة (مخططات sketches ) مثل كتاب (ديكنز) سابق الذكر.
يقترب كتاب (بصرياثا) من (سكيتشات بوز) سواء في موضوعه أو بنائه، فهو مكرّس لوصف مدينة البصرة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا عبر تسعة نصوص طويلة نسبيا، ينطلق كل قسم من مكان معروف في المدينة ليصفه ويصف تحولاته تاريخيا وما رافق تلك التحولات من تقلبات اجتماعية وثقافية، ومثل (ديكنز) ومثل (إيرفنج) قبله، بدأ كل نص بلوحة تخطيطية (سكيتش بالفحم) تصور المكان موضوع النص.
يمثل (بصرياثا) مثالا أنموذجيا لكتب (السكيتش السردي)، فالقارئ لا يمكنه النظر إلى أي من النصوص التسعة على أنه قصة لأنه يتخذ مسارا مختلفا يركز على المكان ويكاد يخلو من حبكة تشد أجزاءه المعتمدة في ترابطها على الوصف المسهب، كما أنه لا يستطيع عده تحقيقا صحفيا أو نصا شبيها بنصوص أدب الرحلات لأنه لا يخلو من خيال وانطباعات ذاتية، ولو أن تقاليد كتابة (السكيتش السردي) وسماته ومصطلحات دراسته كانت معروفة للقارئ لما تردد في قراءة (بصرياثا) على أنه كتاب (سكيتشات سردية Sketchbook).
ويبدو أن طبيعة (السكيتش السردي) المنصبة على المكان والوصف، تجعل كتابه متفقين على شكله العام، فحين نقرأ النص الثالث في الكتاب (أم البروم) سنلاحظ شبهه التقريبي من حيث البناء بنص (ديكنز) المذكور (تأملات في شارع مونماوث)، فالنص يبدأ، بتلخيص سريع لتاريخ (أم البروم) تماما مثلما بدأ (ديكنز) بتلخيص تاريخ الشارع، بدأ (خضير) نصه: تستبدل المدينة أسماء أجزائها، كما تستبدل أسماء مواليدها، كي تجمع الكل في تيار واحد، يخرج من رحمها التاريخي. تفتدي اسمها بأجزاء منها، كي تقاوم الام الولادة، وامتداد الزمان، والتحام الخريطة. أحد هذه الأجزاء كان مقبرة للفقراء، ثم ساحة باسم الملك غازي، ثم غلب عليها الاسم الأمومي القديم
(أم البروم) …
يعمد الكاتب بعد هذا المدخل إلى تفصيل التاريخ الاجتماعي والثقافي للساحة وتحولاتها بوصفها مكانا، غير أن تلك التفاصيل كتبت بتكنيكات سردية، يبدو فيها الراوي كما لو كان يتنقل عبر الزمن ويرصد تلك التحولات: نحن في عام 1831، عام الطاعون الأكبر، في ليلة خريف داجية، أعلن المنادون فيها بالطبول والمزامير عن انحسار الطاعون، بعد أن وجه ضربة قاصمة لنصف سكان المدينة إلا أن الأهالي المختبئين خلف أبواب منازلهم الثقيلة المضببة، وقد جلبت الطبول أسماعهم، أطلوا خائفين ليستطلعوا دبيب الخطى العائدة للفارين من خارج المدينة…
إن المقال الذي كتبه (محمد خضير) في صفحته على (فيسبوك) ويعد فيه (السكيتش) جنسا سرديا، يوضح أن (بصرياثا) كان نتاج رؤية نظرية واضحة في تجربة جنس سردي لم يلتفت إليه النقد العربي، على الرغم مما ينطوي عليه من طاقة تعبيرية كبيرة.