في أصالة الرمز الشعري .. مقاربة بين قصيدتين

ثقافة 2022/03/16
...

 برهان شاوي
هناك في تاريخ الأدب العربي عشرات بل مئات النصوص عن شهيد كربلاء وواقعة الطف، لكن نادرة تلك النصوص التي تتمثل الإمام الحسين وتنطق القصيدة بلسانه. صحيحٌ كلما ذكر الحسين يأتي ذكر قصيدتي الجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد العموديتين ومقاطع أدونيس في المسرح والمرايا، لكن هي قصائد تبجيل ووصف.
في المجموعة الكاملة لقصائد الشاعر رشدي العامل ثمة قصيدة بعنوان «الحسين يكتب قصيدته الأخيرة». شخصيا أعدّها من روائع الشاعر رشدي العامل بشكل خاص ومن روائع قصيدة التفعيلة بشكل عام.
لكن ما أن تقرأ القصيدة حتى تحضر قصيدة السيّاب (المسيح بعد الصلب) إلى الذهن، لا سيما من حيث المبنى. فقصيدة رشدي العامل تبدأ كالآتي:
 ها أنا الآن نصفان
نصف يعانق برد الثرى
ونصف يرف على شرفات الرماح
ها أنا والرياح
جسدي تحت لحدي
ورأسي جناح
ها أنا بين رمل الصحارى
ولون السماء
ها أنا في العراء
أنكرتني ضفاف الفرات
فلم ألقَ قطرة ماء
فاقطع الآن من جسدي ما تشاء
سيفل الحديد الوريد
جرّب الآن في جسدي ما تريد
ذاك رأسي
على طبق بارد يا يزيد
جرّب الآن ما تشتهي هل تعيد
يوم بدر
إذا صهلتْ في الفيافي الخيول
أم تعمم سفيان
ترضي معاوية والوليد
لجناحي ترف الغصون
وترنو إليَّ البتول
يقبل ثغري المدى الصحابة
يبكي عليَّ الرسول
فاضرب الآن في جسدي يا يزيد
وزع الآن ما يشترى
وزع الآن من جسدي دمه
لحمه
ثغره
حلم عينيه، فاليوم عيد
غير أنَّ السماوات تبكي
وثغر النبي يقبل ثغر الشهيد
 
إيقاع هذه القصيدة يذكر بقصيدة السيّاب (المسيح بعد الصلب):
 
بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياح
في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ،
والخطى وهي تنأى. إذن فالجراح
والصليبُ الذي سمّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تمتني. وأنصتُّ: كان العويل
يعبر السهلَ بيني وبين المدينةْ
مثل حبل يشد السفينةْ
وهي تهوي إلى القاع. كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
والدجى، في سماء الشتاء الحزينةْ
ثم تغفو، على ما تُحسُّ، المدينةْ
 
(ملاحظة.. مقاطع القصائد نُقلت نصا كما هما هنا وفي الأصل من غير تلاعب).
 
هذا المدخل المأساوي في كلتا القصيدتين يمنحهما بعدًا دراميا، (فالدراما غير المأساة)، ويترك الحدث المأساوي خلفه في طيات كتاب التاريخ وتفاصيل الشهادة والصلب. فقصيدة رشدي العالم تتحدث بلسان سيد الشهداء في تاريخ الإسلام بعد استشهاده الجليل:
 
ها أنا الآن نصفان
نصف يعانق برد الثرى
ونصف يرف على شرفات الرماح
ها أنا والرياح
جسدي تحت لحدي
ورأسي جناح
 
بينما تتحدث قصيدة السياب بلسان السيد المسيح أيضا بعد إنزاله عن الصليب:
 
بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياح
في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ،
والخطى وهي تنأى. إذن فالجراح
والصليبُ الذي سمّروني عليه طوال الأصيلْ
لم تمتني.
 
في كلتا القصيدتين يتألق القناع الشعري. فالحسين على الرغم من شهادته وتقطيع جسده ورفع رأسه على الرماح يتحدث عبر قناعه في القصيدة، بل ومن خلال رشدي العامل يكتب قصيدته الأخيرة. وكذا مسيح السياب يتحدث بعدما أنزلوه من الصليب، بل ونجده يأسى لواقع البشر وهو مفعم بالأمل والحياة، وهنا ننشد مع نص السياب عن رؤية مسيحه. 
لكني هنا وددت التوقف عن سؤال يخص الاستعارة والرمز والقناع: ألا يجد القارئ لقصيدة السياب نفسه يعيش تجربة ذهنية وتاريخية ورمزية، بينما يعيش القارئ لقصيدة رشدي العامل تجربة وجدانية تتوغل عميقا في اللاوعي الجمعي.
المسيح رمز وقناع هيمن على الشعر العربي في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم عبر الترجمات للشعر الأنكلوسكسوني ومن خلال التجربة الشعرية اللبنانية عن مجموعة مجلة شعر. وإذا ما كانت استخدام هذا القناع منسجما مع وعي ولاوعي الشعراء اللبنانيين المسيحيين كتجربة روحية ووجدانية، فهو بالنسبة للسيّاب كان قناعا يحمل رمزيته الذهنية والثقافية العميقة، كان استعارة شعرية وليست وجدانية. بينما قناع شهيد كربلاء بالنسبة لرشدي العامل كان أكثر أصالة وانسجاما مع المورث الحقيقي لوعي ولاوعي الإنسان العراقي بغض النظر عن طائفة
 الشاعر. 
لا أسعى إلى المفاضلة بين القصيدتين اللتين كتبتا في ظروف مختلفة، لا ولا المفاضلة بين شاعرين من جيلين مختلفين ومرجعيات فكرية ووجدانية مختلفة، لكن أردت التوقف عن دلالة القناع الشعري إن كان رمزًا ثقافيا وتجربة ذهنية أو تجربة روحية ووجدانية أصيلة تبتعد عن كونها رمزًا ثقافيا واستعارة
 ذهنية.