عموميَّة الخطاب الأدبي وتعدد القراءات

ثقافة 2022/03/18
...

  أحمد الشطري
 
من البديهي أن يكون لكل خطاب متلقٍ يتفاعل معه، وليس بالضرورة أن يكون هذا التفاعل إيجابيا بل قد يكون تفاعلا سلبيا سواء بفهم ماهية الخطاب ومدلولاته، أم بعدم فهمها، وعدم الفهم هو أيضا نوع من أنواع التفاعل. ومما روي: أن رجلا لقي الشاعر أبا تمام فقال له: (مالك تقول ما لا يفهم؟) ومن هنا يمكن لنا أن نستدل أن الرجل تفاعل مع خطاب أبي تمام ولكنه تفاعل غير فاهمٍ أو غير واعٍ لما يحويه الخطاب من معانٍ أو مقاصد. وعليه فلا خطاب من دون تفاعل ومتلقٍ. إذ إن عنصري التفاعل والمتلقي هما الفاعل الأساسي في كينونة الخطاب، وإن بدا العكس، وإذا افترضنا جدلا أن شخصا ما وجه خطابه في غرفة عازلة للصوت، فهل يمكن أن يعد هذا خطابا؟ أرى ان ذلك يدخل في دائرة الخطاب باعتبار أن ذات الشخص هي أيضا متلقٍ، ومن المؤكد ان هناك عملية تفاعلية تمت مع الخطاب. وإن أي نص إبداعي في بدء نشوئه هو خطاب بين الكاتب، وذاته، قبل أن يخرج إلى الفضاء الأوسع. ومن هنا نستطيع أن نرسم مخططا لعلاقة ثلاثية مترابطة هي. الخطاب، والمتلقي، والتفاعل. ولو افترضنا سؤالا: هل يشترط في لغة الخطاب أن تكون وفق ضوابط محددة، أم أن الخطاب ممكن أن يكون مجرد هذيان. بمعنى آخر هل يمكن أن يعد الهذيان نوعا من أنواع الخطاب؟. 
وللإجابة عن ذلك يمكن أن نستدل بلغة الأطفال فهي لغة في غالبها غير خاضعة لمحددات، ولكننا نتفاعل معها، ونستلذ بها في كثير من الأحيان من دون أن نفهم مقاصدها، وقد نستمع الى حديث بلغة لا نفهم منها شيئا، ولكننا نتفاعل معه بغض النظر عن نوعية التفاعل. وربما يتقارب هذا المفهوم مما أسماه رولان بارت بـ (هسهسة اللغة) ويضرب مثالا على ذلك تفاعله مع محاورة بين مجموعة من الأطفال الصينيين في (فلم انطونيني) من دون أن يفهم ما يحتويه الحوار من معانٍ لعدم معرفته باللغة الصينية. 
وتختلف نوعية وشكل وماهية وحجم التفاعل مع الخطاب تبعا لقوة تأثيره ومرتكزاته الفكرية والحسية وطريقة تقديمه لمحتواه. فقد ينحصر تأثير خطاب ما بذات المخاطِب. وقد يتعدى تأثير خطاب آخر إلى ملايين المتلقين، وقد يكون تأثير خطاب ما بواسطة الشكل، كما هو في فن الرسم، أو بالإيقاع كما في الموسيقى، أو بالمعنى كما في النص العلمي، أو بكل ذلك وبغيره كما نجده في النصوص الإبداعية الأدبية والسينمائية.
ولا يعني محدودية تأثير الخطاب عجزا في دوافعه، وإنما هو عجز في أدوات المخاطِب. فقد يعبر شخص ما عن فكرة بلغة، أو بوسائل بالغة التشويق، فيكون مجال تأثيرها واسعا، بينما تفشل ذات الفكرة في جذب المتلقين إليها؛ لعجز المخاطِب في التعبير بأسلوب شيق ومقنع.
وقد يتنوع تأثير الخطاب تبعا لتنوع المتلقين واهتمامهم. فالخطاب العلمي والفلسفي في كثير من جزئياته يكون محصورا بفئة معينة؛ لخصوصيته المحددة بوجهة الخطاب، وأعني بذلك أن لكل خطاب وجهة تحدد جهة المتلقين له. فهناك خطاب موجه نحو العقل، وخطاب موجه نحو العاطفة، وخطاب موجه نحو الغريزة، وكل وجهة من هذه الوجهات لها جمهورها، أو الذوات المتفاعلة بها، وقد يجمع خطاب أكثر من وجهة واحدة، كما هو في الخطاب الأدبي فهو غالبا ما يجمع وجهتي العقل، والعاطفة، وقد تضاف لهما الوجهة الغريزية، أو أي وجهة حسية أخرى، ومن هنا جاز لنا أن نصفه بأنّه خطاب عام، ولذا أجد أن ما ادعي بأنه خطاب (للنخبة) في الشعر، أو السرد لا ينسجم مع عمومية الخطاب الأدبي، وقد يكون سبب هذا الادعاء هو ما واجهته لغة ذلك الخطاب، أو تقنياته من رفض لدى مجموعة كبيرة من المتلقين؛ لأسباب ذوقية، أو عدم فهم المعنى المختبئ في سياقاته إذا افترضنا جودة لغة الخطاب، ومحتواه، وهذا برأيي وهم وقع فيه مدعي (الخطاب النخبوي) فإنه كما أسلفنا لكل خطاب تأثيره التفاعلي في المتلقي، وسواء كان ذلك بالرضى، أو بالرفض، إذ لا يمكن لخطاب أن يحوز على الرضا التام كون المتلقي خاضعا بانفعالاته إلى عدة مؤثرات سواء كانت فكرية، أم ايدولوجية، أم اخلاقية، أم دينية، أم ثقافية، أم ذوقية .. الخ.
وهذه المؤثرات المتعددة ربما هي الأساس في تعدد القراءات للنص الأدبي، ولذلك فإن النص الإبداعي لا يمكن أن يكون خاضعا لقراءة واحدة.  إن النص الأدبي هو عالم مشرع الأبواب، وكل قارئ يدخل إليه من الباب التي يراها مناسبة له، وتنسجم مع قدراته الذاتية بكافة مؤثراتها، ولذلك نجد أن نصا ما قد حظي بعدة قراءات، واستنتاجات، سواء كان ذلك وفقا لتعدد المناهج، أم لتعدد المؤثرات الذاتية للقارئ. ولم يخرج من ذلك حتى النص الديني المقدس، وتعدد القراءات هو ظاهرة إيجابية، وليست سلبية، كون القراءة هي حكم احتمالي، وليست قطعيا. فلا يمكن لأحد أن يعطي حكما قاطعا في نص، ولذا فإن كل القراءات هي وجهات نظر قابلة للخطأ والصواب.  ومن المؤكد أن تعدد القراءات سيمنح النص، أو المتلقي ثراء، ويوجد مفاتيح متعددة للولوج الى عوالمه الخفية. وهو بمثابة مشاركة من المتلقي لعقول متعددة.  إن أي نص إبداعي  يحمل مخزونات دلالية، وبلاغية، ولغوية، وفكرية متعددة، ومتجددة في الوقت نفسه، ولذلك فنحن نقرأ المتنبي، أو أبا تمام مثلا ليس كما قرأهما البرقوقي، والمرزوقي فمناهج القراءة الحديثة تختلف بطبيعة الحال عن تلك المناهج التي سلكها السابقون، والذين يأتون بعدنا أيضا ستكون لهم مناهجهم، ووعيهم التحليلي في القراءة، تبعا لتطور الحياة، وتجدد النشاط الفكري ولا يعني ذلك إلغاء قراءات السابقين.
وعليه فإن الخطاب الأدبي هو خطاب يمتلك ديمومة الحياة، وعمومية التأثير. والمتلقي هو عالم متغير، وليس ثابتا، فقد يؤثر خطاب في جمهور واسع في زمن ما، ولكن تأثيره ينحسر مع مرور الايام، وتغير مبرراته. فقصائد الحروب دائما يكون حضورها متوهجا في فترة الحرب، ولكنها سرعان ما يخبو وهجها عندما يسود السلم، وقد يكون خطاب ما محدود التأثير، ولكن تأثيره يتسع مع مرور الأيام، فالشعر الحر، أو قصيدة النثر كان تأثيرهما، وحضورهما يكاد لا يذكر، ولكن تأثيرهما، وجمهورهما أصبح الآن واسعا قد يوازي أو يفوق جمهور القصيدة العمودية.