عن غرفة الكاتب

ثقافة 2022/03/23
...

 نجم والي
قبل أيام مرت الذكرى المئة والعشرين على ميلاد الكاتبة فرجينيا وورلف، مقالات كثيرة ظهرت عنها، أغلبها تناولت الفكرة التي كانت الرائدة بالحديث عنها، الرغبة بامتلاك «غرفة تخصّ المرء وحده»، في كتابها الذي حمل العنوان نفسه، الرغبة التي هي أول خاطر يراود مَن يحلم بأن يكون كاتباً، والتي عرفها الكتاب والكاتبات، قبل وبعد فرجينيا وولف، إن ليس بالضرورة كانوا قرؤوا كتابها.
 
وجود مجال محصور بين جدران أربعة إذن، لا تهم مساحته، هو حلم الكتابة الأول، يبرز مع بروز الموهبة عند مَن يكتشف في نفسه أنه وُلد لكي يكون كاتباً، لا يهم أين يعيش وماذا يحدث حوله وينتظره.
أتذكر أنني حين جئت للدراسة في جامعة بغداد، كلية الآداب، فرع اللغة الألمانية، كان أكثر أمر شغلني، هو العثور على غرفة تخصّني، وقبل أن يشغلني أمر الدراسة. فلكي أكون كاتباً، كما كانت قناعتي، كاتباً صاحب مشروع، ينتظر منه القراء - من وقت لآخر - كتاباً جديداً، فلا بد وأن تكون لي غرفة تخصّني.
  الحصول على غرفة في منطقة الحيدرخانة، كان الخطوة الأولى في هذا الاتجاه. صحيح أنّني تقاسمت الغرفة أولاً مع طالبين درسا في معهد الإدارة، لكن مساحة الغرفة الكبيرة، ثم سفرهما ببعثة إلى يوغسلافيا بعد شهر، نميا الشعور عندي، بأنّ حياة جديدة تنتظرني. فحتى ذلك الوقت لم يكن لديَّ مكاني الخاص. فرجينيا وولف تتحدث عن غرفة الكاتبة والدور الحاسم الذي تلعبه في حياتها. في زمنها سادت العلاقات الذكوريّة، وكان امتلاك غرفة خاصة بامرأة أمر يدخل باب المستحيل، على هذا الأساس اشترطت وجود الغرفة للكاتبة خاصة، من دون امتلاك جوها الخاص وحريتها بالتحرّك، تصعب عليها الكتابة. واحد مثلي نشأ في مجتمع بطريركي، لا بد وأن يدعم نظرية صاحبة „الأمواج“ و“مسز داللواي“، بالتأكيد ما كانت كتبت عمليها ذينيك ولا الأعمال الأخرى من دون غرفة تخصّها.
   أنا الآخر، ما قُدِّرَ لي مواصلة الكتابة من دون الغرفة في الحيدرخانة. ربما يبدو الأمر مضحكاً لكاتب أوروبي، الطفل في أوروبا يحصل على غرفة تخصّه مبكراً، يعيش مع أشيائه، لعبه، دفاتره وعدته المدرسية، ملابسه وكل ما يحتاجه حتى في غرفة الحمام، أول ضمير شخصي يتعلّمه الطفل في لغته هو ضمير التملّك المفرد، يقول: فراشي، فرشاتي، لعبي، موبايلي ... إلخ، بينما يحتاج أحدنا في الشرق، سنوات طويلة لكي يتحدث بهذا الضمير من دون خجل. لم أملك في بيتنا في العمارة غرفة تخصّني. أخواتي الثلاث نمن في الغرفة ذاتها التي تقاسمها معنا جدّي وجدّتي. في بغداد أولاً أصبحت لي غرفة، والقضية لا تتعلّق بمجال خاص وحسب، بل لها علاقة، بأن هذا المجال يعود للشخص الذي يسكنه. إنها المرة الأولى التي أشعر بأنني أسكن مكاناً يعود لي، أرتبه، أضع فيه الأثاث كما أشاء، أدخله وأغادره حسب هواي. ضمير التملّك أصبح حقيقة: تلك هي غرفتي، أدفع أجارها شهريّاً، ستة دنانير (20 دولاراً آنذاك)، ذلك هو سريري. الآن أستطيع أن أشتري ما يعجبني من الكتب، دعوة الصديق الذي أشاء. أصدقاء عدة زاروني، جلسوا أو ناموا في الغرفة. حتى أبي زارني. كانت الغرفة جزءاً من خان كبير - سكنه جيش من العزاب، قادمون من مختلف مدن البلاد، بعضهم طلاب، بعضهم موظفون أو جنود - وقع في زقاق صغير خلف مطعم „جميلة“ المواجه لتمثال معروف الرصافي، تلك الغرفة التي تقدّمت ساحة البيت إلى اليمين مباشرة بعد الدخول، كانت الخطوة الأولى التي سيقطعها الكاتب الذي أصبحت أنا عليه، منحتني بحبوحة من الاستقلالية، وذكرتني بحياة أولئك الكتّاب العالميين من الجيل الأميركي المفقود، الذين قرأت عنهم الكثير، كيف عاشوا حياتهم في باريس، أعرف اليوم أنه كان تصوراً رومانسياً من طرفي، بعيداً عن الواقعية، لكن شاباً في مثل سِنِّي يريد أن يصبح كاتباً ويأتي إلى بغداد بداية سنوات السبعينيات الضاحكة، على الرغم مما حوت عليه أيضاً من نكد وقمع للحريات، سيفعل كل ما في وسعه لكي يغذي تصوراته الرومانسية، ويقول أنا أحد الـ „لوست جينيريشن“ العراقيين، „الجيل المفقود“، ها أنا أسير على خطى الأسطوات أولئك في بغداد، أعرف بأنّهم وعلى الرغم من ضياعهم في باريس، أوجدوا نظاماً لأنفسهم: أرنست همنغواي مثلاً كانت له غرفة في باريس في صحن خلفي من شارع رو نوتره دامه ده شامب 113، فوق معمل لنشارة الخشب، يهبط منها كل صباح إلى مقهى لا كروسيري ده ليلاس بداية شارع مونبرناس، يجلس هناك، يكتب ويشرب قهوته ويدخن حتى الثانية ظهراً، ليعود لشقته ويتناول الغذاء مع زوجته الأولى، إليزابيث هدلي ريشاردسون، الشيء نفسه فعله، خلال إقامته قبلها في شقة نهاية شارع رو كاردينال ليمونه عند ساحة ده بلاس كونتريسكاربه، حيث واظب على الكتابة صباحاً في مقهى هادئ عند ساحة سانت ميشيل، أوقات العصر يقوم بجولة في الأسواق المجاورة، في الحانات، يلتقي بزملائه الآخرين، سكوت فيتزجرالد، ترومان كابوتيّ، أو يزور غرترود شتاين في الأتيليه في شارع روه فلور 57 وسيلفيا بيج صاحبة مكتبة „شكسبير وشركاؤه“ شارع لوديون 12، أو عزرا باوند. 
وأنا؟ فإنَّ عليَّ الذهاب للكلية صباحاً، ولا أعود قبل الثانية ظهراً، كان لا بد لي من عمل العكس، الكتابة في الليل، الخان يهدأ ليلاً، الكل في غرفهم، حتى في ليالي الصيف، حيث ينام الجميع في الصحن الكبير، يسيطر الهدوء التام. في ساعات العصر لا بد من التجول في المناطق والأحياء المحيطة بالخان، في الحيدرخانة أو الفضل وأبو سيفين أو في أسواق الشورجة، في الأزقة الضيقة المجاورة لها والتي يحتاج المرء أن يرمي فيها حجراً فقط حتى يقع على قصة، كل مكان قصة، كل إنسان قصة، ذلك ما تعلّمته من جولاتي تلك.
   اليوم أجلس أكتب منذ ساعات الصباح الأولى حتى الثالثة عصراً، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع، في غرفتي في بغداد ذلك الوقت، كنت أبدأ بالكتابة ليلاً وأنا أسند ظهري للمخدة على عارضة السرير، يومياً حتى الواحدة ليلاً، باستثناء مساء الثلاثاء الذي خصصته لزيارة اتحاد الأدباء في ساحة الأندلس.
والآن كلما عدت بذاكرتي إلى تلك السنوات، كلما قرأت كتاباً لفرجينيا وولف، كلما تذكّرت غرفتي الأولى الخاصة بي، كلّما فكرت، ماذا كنت سأكون عليه، نجم والي من دون أن أمتلك آنذاك: غرفة تخصّني وحدي؟