العُروج إلى ممالك الجسد

ثقافة 2022/03/23
...

 حميد المختار
 
منْذُ مطلع تسعينات القرن المنصرم وأنا أدوّن الملاحظات، وأكتب وأقتني المصادر والكتب التي تخصصت بالحديث عن الجسد وتمثّلاته وتحوّلاته وآليّاته ويومياته في كل ما يقع في يدي من شعر ورواية ومقالات وبحوث.
وبقيت متردّداً في البدء، كيف يمكنني أن أتصور جسدي الذي صار يمثل هويتي، وهي مقولة تصلح للذكر والأنثى، فالجسد آنِيَةُ الخلق، وعباءة الروح الترابيّة، وسجنها اللذيذ الذي يقودنا إلى مراتع محسوسة تَحْسِب لنا تحوّلات الأيام والدهور، ومعها تَعْرِض لنا حالات الجسد في سيرورته على الأرض وفي بثّه للغته المفتوحة على الآخر، وألفاظ الجسد هي حركاته وسكَناته ومظهره وإخفاءاته بل وإخفاقاته، وهي لغات وتعبيرات متواصلة، فهو متواصل مع ذاته ومع الآخر، إنه يُرسل ويَتلقى ويُثير ويَستجيب ويُعلن ويُخفي، والجسد قد يكشف ما تُخْفيه الكلمة وإِنْ بطريقة غير مباشرة، وتعبير الجسد أقدم بل ويتجاوز كل لغات العالم، جسدنا هو لسان حالنا، خصوصاً حين يتعرّض للألم والمرض والانتهاك والقسوة، فهو قادر على تمثّل كل ذلك بصيغ أخرى وسوف يبثها بلغته الخاصة، فضلاً عن أنّه حين يعجز عن تحمل آلامه سيقوم بأفعال قد لا تصدقها أبداً، خصوصاً ما يحدث له في السجون والمعتقلات، وأنا شاهد على ذلك حين اكتشفت أنَّ جسدي ليس لي وأنه يتبرّأ منّي، وقد رأيت الكثير ممّن قادهم جسدهم إلى التهلكة حين يعترفون خوفاً من الألم، وفي النتيجة فإنّ أجسادهم قادتهم إلى العدم وهم لا يعلمون، ولم أكن من الذين يُروّضون أجسادهم في الجوع والرياضات الصعبة، فقد تركته على سجيّته ينهل من الطيبات ما يستطيع، لكنه كان جباناً ورعديداً يخاف الألم والموت، لذلك تراه يتركك في منتصف الطريق، هذا الجسد الذي صار ركاماً من الأمزجة التالفة، يحوي خليطاً من الدّم والخلايا المتهالكة، جسدي هذه العباءة الغبارية التي صاحبتني في الدنيا معروفا، الذي أحببته كثيراً، بدأ يتهرّأ ويتمزّق وينهار شيئا فشيئا ولا أُفْشي سرّاً في ذلك، ولكنها السّنون التي أهلكته وكشفت جوارحه وأوسعت من عطايا الألم، هذا الصّديق الذي أرْكُن إليه وأعرفه، اكتشفت أنه ليس سِوى وحشٌ ماكر سينتهي به الأمر إلى افتراس سيّده، جسدي؛ جسد الإنسان الهش، لقد حيّر النَّطاسيين كثيراً في مرائِرِه وأسقامه، في تقلّباته وحالاته، بحيث أنه قاد أهل الغرب إلى بناء الحضارات باسمه، يقدّسون نزواته ويؤدون له طقوس الولاء والطاعة، هذا الجسد المشفّر كيف يتسنّى له التعبير عن رموزه وإشاراته وأبجدياته؟! وكيف يتم وضع أسس إعادة إنتاجه وبث قواه وتنظيمها خارج تقاليد التابو الروحي والاجتماعي بل وحتى السياسي؟!، وإيجاد منطق يفصح عن قدرته في التوليد الذاتي كما يقول (منير الحافظ).. إذن يتوجب علينا فك رموزه في كل مرة من داخل ثقافة معينة بعد تحديد الوظائف التي يقوم بها، لأن لا شيء أكثر هروباً وتملّصاً منه، ونحن من دون هذا الجسد نكون في غياب تام، فوجود الإنسان هو جَسَدِيٌّ ولا يمكن الحديث عن الإنسان من غير العودة إلى جسديته، ولهذا تسابق المتصوّفة والعرفانيون في تمزيق هذه الصورة واستبدلوها بكينونة أخرى، إنّها صورة الاحتفاء بالجسد عبر التوغل في إيذائه والتمثيل به وسفك دمه، وصار عالَم الأجساد البشرية منذ أوّل قربان هَيولى هبط من عليائه إلى الأرض عبر الكتب السماويّة صار متوارياً في هياكل تلك الأجساد ومتماهياً في الوقائع المأساوية التي كثيرا ما تتعلق بالقداسات والاحتفالية الطقوسية في إعادة تمثيل الواقعة ابتداءً من البكاء والنحيب على أدونيس وانتظار عودته بالطقوس ذاتها التي تتزامن مع اخضرار الأرض وازدهارها من جديد ..
لقد دعا أهل العرفان إلى تحرير الجسد عن طريق مَحْوِه، إنهم يرون أنَّ الانعتاق الكلي لا يتمّ إلّا بالتحرّر من متطلبات الجسد، أي تحرير الجسد بالترويض وليس بالتلبيّة، وقد تهيّأ (الحلّاج) ليأخذ دوره الكبير حين خطط لرسم مشهد القتل الجسدي بدقة متناهية بعد أن أَعانَ جسده على الخروج من أسْر المكان المادي إلى فضاء الروح، وكذلك فعل (الحسين) عليه السلام حين استنهض جسده متهيّئاً لصيرورة فعل تاريخي، إنّها الرغبة واللّذة الكاملة التي تهيّأت لها الأجساد ورسمت سيناريو المَصارِع، وصار كلّ جسد يرتقي معراجه بِخِرْقة موته، وفي الجانب الآخر في الحضارة الغربية اكتشفوا الجسد واحتفوا به بل وعبدوه وصارت الفلسفات تَتْرى للتوغّل في ماهيته وظاهريته، لكن سيلتقي المتضادان أهل الروح وأهل الجسد في اليقين بضرورة الرَّقص، الذي يقول عنه أبو سعيد بن أبي الخير: “إن في الرَّقص رياضة من الرياضات التي تساعد المُريدين على التخلّص من شهوة الجسد» ...
إنّه هنا لغة مسموعة، والرقص من وجهة نظر أخرى هو نشاط اجتماعي وطريقة للترفيه يَحظى به عِلِّيّة القوم من الملوك والوجهاء في مجالسهم الخاصة، وينخرط فيه العوام في مناسباتهم الاجتماعية، وهو فن وثقافة نخبوية وشعبوية في الوقت ذاته.. لقد تعددت الأسئلة عن الجسد في وجوده المادي وفي علاقته بالروح، وسيبقى مثار الأسئلة وتقاطع التعريفات في مختلف الفلسفات في الشرق والغرب، كل ذلك سيسهم بالنتيجة في عملية تدوين الجسد كي تعيده إلى كينونته الكبرى!.