صدام الجميلي: غرائبيتنا واقعيَّة مطلقة

ثقافة 2022/03/23
...

 البصرة: صفاء ذياب
لم يتوقف الفنان العراقي صدام الجميلي عن إدهاشنا بجديده مع كل معرض، فمنذ أول معرض له مع مطلع الألفية الثالثة، عرف الجميلي بتميزه باللون وتشكيلاته الخاصة، حتى عده بعض النقاد بأنه مبتكر لألوانه الخاصة، ومن تلك اللحظة، انتهج الجميلي طريقاً خاصاً في بناء أعماله التشكيلية، ومن ثم كان لكل معرض له خط متناسق، فكل عمل في معارضه يكمل العمل الآخر، وكأنّه يقدم متوالية فنيّة تقدم بعمل واحد بعدة أشكال.
 غير أنّ الانتقالة المهمة في مسيرته الفنية كانت حين بدأ يعيد صياغة الواقع من خلال ثيمتين أساسيتين: التوحّش والفانتازيا، فمزج بين توحّش الحياة وقسوتها، من جهة، والاستهزاء بالبؤس الذي نعيشه، من جهة أخرى. 
غير أنّ الجميلي في معرضه الأخير الذي سيقام على قاعة مصنع بورفو للفنون في مدينة بورفو الفنلندية، انتهج موضوعات مغايرة، وخطوطاً وعلاقات فنية مختلفة، وهو ما حاولنا الحديث عنه مع الجميلي. 
 
مستحيل
اختار الجميلي عنواناً مشاكساً لمعرضه الجديد (I’m possible)، ليحيل على أنموذجين مختلفين في العنوان: مستحيل، وغير مستحيل، وبهذا يقول الجميلي عن عنوان معرضه: يشكل العنوان لعبة لغويّة تناور على كلمتي ممكن وغير ممكن، أو مستحيل بالانجليزية، في إشارة لصلب فكرتي عن الأعمال وعلاقتها برؤيتي للعالم الذي يبدو فيه كل شيء ممكنا ومستحيلا في الوقت نفسه. فكل ما نتوقعه ممكن الحدوث وكل ما لا نتوقعه أيضاً. في أعمالي تجري الإشارة إلى لحظات وأحداث مفترضة تبدو غريبة وشحيحة الحدوث أو ربما لا يمكنها أن تحدث غير أنها في الحقيقة قابلة للحدوث. فالأعمال ليست سريالية بالمعنى الاصطلاحي والدلالي والتاريخي، بل هي واقعية جداً نظراً للعلاقات والعناصر الواقعية فيها. غير أن علاقاتها التي تبدو مستحيلة تتحقق في الأعمال كما هي ممكنة التحقق في الواقع. أحاول في أعمالي أن أشير إلى لحظة مستحيلة غائبة ومطموسة في مكان ما، غير أنها موجودة فعلاً. إنها لحظة التحقق خارج عقلنا التوقعي والتنميطي. لحظة تصور سلوك العالم في قدرته على اختراق تصوراتنا وإعادة ترتيبها بفعل الوعي الخاص للوجود.
 
تقنيات مغايرة
اختلفت تقنيات الجميلي في هذا المعرض عن تقنيات المعارض السابقة، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الكيفيات التي يقدم بها أعماله مع كل جديد.
وفي هذا يشير الجميلي إلى أنه في أعماله وتجربته عموماً لا يركن إلى تقنية محددة من دون غيرها، «فأنا فنان تجريبي بالأساس ولا أستطيع أن أقع تحت قالب يقتل رغبتي في الاكتشاف. إذ لا بد من طاقة تحرّك الفن وتصادر الرتابة فيه من أجل إخراج أعمال طازجة وحية، ومن ثم أنا أجرّب داخل وعيي الخاص وضمن حدود فهمي للفن. مع أنني أعمل في كثير من الأحيان على أفكار ذهنية ومفاهيمية غير أني لا أسعى ولا أميل إلى الوقوف عند الفكرة فقط، بل إنني مؤمن بحاجة العمل الفني إلى الحيوية والتجريب والجمالية. فلا يبقى من العمل في كل أحواله غير تلك البنية المتفرّدة منه، وقدرته على وضع نسخة جديدة من الفهم والمحاولة والتناول الفني. وبذلك لا يعني التجريب فقط في المواد أو الشكل، بل إن الفن حقل واسع للتجريب والتحليل البصري، فيمكن أن يقع التجريب ضمن الشكل أو التعبير أو المفهوم أو البناء العام أو خارج ما يمكن أن نعدّه حدوداً فنية».
مضيفاً: ما أردت تقديمه هو فهم مختلف للفن، مع الحدود التي يتخيّل البعض أنّها باتت مهضومة، لا سيَّما أنا الآن أمام مشاهد مختلف لديه الكثير من الوعي الفني والتاريخ الجمالي. لذا فإنني أحاول أولاً أن أرسّخ تجربتي في المشهد الأوروبي والفنلندي تحديداً. وهذا يستلزم التأسيس والترسيخ والإضافة والكثير من الجهد ضمن حركة جمالية منظمة لتضيء التجربة عبر خط بياني واضح ومعلوم. إذ إن الفن وشروطه وعوالمه وسياسته ومخرجاته مختلفة تماماً.
 
غرائبيَّات الجميلي
ما زال الجميلي يقدم الغرائبية بأشكال مختلفة، فمع كل تجربة جديدة نراه يطرح مفاهيم غرائبية تختلف عن السابقات، وهنا يمكننا أن نسأل أنه ألا يمكن أن يقدم أعماله انطلاقاً من وضوح الحياة؟.
الجميلي يجيب عن تساؤلنا هذا بأن الغرائبية هي واحدة من مصادر أعماله ومخرجاتها، وتلك الغرائبية هي واقعية مطلقة، بل أكثر واقعية من غيرها. وهي تمنحه القدرة على الجرأة والبسالة لإنتاج أعمال تصور أفكاره، تلك البسالة المطلوبة في الفن والإيمان بسلوك فني مختلف لا توقفه حدود ولا تربكه قوانين. ويظن الجميلي أن تلك الأعمال هي أكثر الأعمال وضوحاً عن الحياة، فالحياة الواقعية حياة منظمة بفعل آراء إنسانية تحاول تدجين العالم ليكون أكثر فهماً وأمناً للذهن البشري. غير أن وجودنا الغفل أو الحر خارج وعينا وسيطرتنا وهو الأكثر حقيقية والأكثر عمقاً.
 
الحياة في المجهول
عاش الجميلي ثلاث مراحل مختلفة، الأولى تمثّلت في تجاربه الأولى في العراق، ولا سيما في البصرة، والثانية في عمّان، التي قدم فيها أهم تجاربه الجديدة، والثالثة في فنلندا التي يقدم فيها معرضه الشخصي الثاني هذا، فكيف أثرت هذه الانتقالات في تجربة الجميلي التشكيلية؟ 
الجميلي يؤكد أنه لا شك أن الحياة والمجتمع والبيئة لهم دور في أعمال أي فنان. ولأنّه خرج من العراق قبل أكثر من 14 عاماً، فإنّ الأمر لم يؤثر كثيراً الآن بقدر تأثيراته الأولى. ومع أن الحياة هنا في فنلندا لا تشبه الحياة الأولى إطلاقاً، كونها تقع على الجانب الآخر من كل شيء، فإنّه وجد فهماً أكثر لما يقوم به اجتماعياً بفعل القدرة العالية للمجتمع في التآلف مع أي شكل من أشكال الفن. فضلاً عن الفهم المختلف للفن الذي يجب على كل فنان معرفته وإدراكه فالمشهد المختلف يحتاج إلى منتج مختلف. هذا وثمة أمور كثيرة تتعلّق بالنظام الفني، العالم والمؤسسات وآليات فهم الفنون وطرق عرضها والتأسيسات التي يقوم عليها والنظام العام لإنتاج تلك الفنون من خلال التنظيم الذهني الدقيق. والفنلنديون من أكثر الناس في عالمنا قدرة على التنظيم والصياغة الرياضية لكل تفاصيل الحياة حتى العاطفية منها. ومن ثم عندما يتموضع الجميلي في سياق عام عليه أن يدرك موضعه وآليات ذلك السياق وقدرته على الانسجام والاندماج معه. «هذا يؤسس مناخاً صحياً للفهم والقبول من الطرفين، ومن ثم يكون ثمة إمكانية لغرس التصورات في حقل عام مختلف وصعب ودقيق… وأعترف أن ذلك لم يكن يسيراً.